الجزء الأول :الرد علي شبهة مصادر القرآن الكريم" تأليف محمد صلي الله عليه وسلم"



مصادر القرآن الكريم " تأليف محمد صلي الله عليه وسلم"

 



كما اتهمت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم بتأليف القرآن الكريم ، كذلك فعل بعض المستشرقين من أمثال بيرسي هورنستاين - يوليوس فلهاوزن -د.بروس و د. لوبون وقد أخبرنا الله جل وعلا عن ذلك في عدة مواقع من كتابه الكريم حيث قال :

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ) (هود:35)

(
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) (السجدة:3)

إن هذه شبهة واهية لا أساس لها من الصحة ولنا في إثبات ذلك أدلة هي :-

1-
إن أسلوب القرآن الكريم يخالف مخالفة تامة أسلوب كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فلو رجعنا إلى كتب الأحاديث التي جمعت أقوال محمد صلى الله عليه وسلم وقارناها بالقرآن الكريم لرأينا الفرق الواضح والتغاير الظاهر في كل شيء، في أسلوب التعبير ،وفي الموضوعات ، فحديث محمد صلى الله عليه وسلم تتجلى فيه لغة المحادثة والتفهيم والتعليم والخطابة في صورها ومعناها المألوف لدى العرب كافة ، بخلاف أسلوب القرآن الكريم الذي لا يُعرف له شبيه في أساليب العرب.

 



2- إذا افترض الشخص أن القرآن الكريم إنتاج عقل بشري ، فإنه يتوقع أن يذكر شيئاً عن عقلية مؤلفه. ولو كانت تلك الادعاءات حقيقية فإن أدلة ذلك ستظهر في القرآن الكريم ، فهل توجد مثل تلك الأدلة ؟ وحتى نتمكن من الإجابة على ذلك فإن علينا معرفة الأفكار والتأملات التي دارت في عقله في ذلك الوقت ثم نبحث عنها في القرآن الكريم

 



 

 



3- يستشعر القارىء في فطرته عند قراءة الحديث النبوي شخصية بشرية وذاتية تعتريها الخشية والمهابة والضعف أمام الله ، بخلاف القرآن الكريم الذي يتراءى للقارىء من خلال آياته ذاتية جبارة عادلة حكيمة خالقة بارئة مصورة ، رحيمة لا تضعف حتى في مواضع الرحمة مثل قوله سبحانه في شأن أتباع عيسى عليه السلام ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (المائدة:118)

 



فلو كان القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم لكان أسلوبه وأسلوب الأحاديث سواء . ومن المسلم به لدى أهل البصر الأدبي والباع الطويل في اللغة أن من المتعذر على الشخص الواحد أن يكون له في بيانه أسلوبان يختلف أحدهما عن الآخر اختلافاً جذرياً.

 



4- محمد صلى الله عليه وسلم أُمّيّ ما درس ولا تعلم ولا تتلمذ ، فهل يُعقل أنه أتى بهذا الإعجاز التشريعي المتكامل دون أي تناقض ، فأقر بعظمة هذا التشريع القريب والبعيد ، المسلم وغير المسلم ؟ فكيف يستطيع هذا الأمي أن يكون هذا القرآن بإعجازه اللغوي الفريد الغريب وإعجازه التشريعي المتكامل اجتماعياً واقتصادياً ودينياً وسياسياً .... هل يمكن لهذا الكتاب أن يكون من عنده ؟! وهل يجرؤ على تحدي ذلك بقوله " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا " هذا تحدٍ واضح لغير المسلمين فهو يدعوهم لإيجاد خطأ فيه .

 



5- إن نظرة القرآن الكاملة الشاملة المتناسقة للكون والحياة والفكر والمعاملات والحروب والزواج والعبادات والاقتصاد لو كانت من صنع محمد صلى الله عليه وسلم، لما كان محمد صلى الله عليه وسلم بشراً. إن هذه التنظيمات وهذه التشريعات والآراء تعجز عن القيام بها لجان كثيرة لها ثقافات عالمية وتخصص عميق مهما أُتيح لها من المراجع والدراسات والوقت . فرجل واحد أياً كانت عبقريته ، وأياً كانت ثقافته ليعجز عن أن يأتي بتنظيم في مسألة واحدة من هذه المسائل ، فما بالك بكلها مع تنوعها وتلون اتجاهاتها وهل يتسنى لأُمي أن يأتي بهذه النظرة الشاملة في الكون والحياة والفكر ؟

 



6- لماذا يؤلف محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وينسبه إلى غيره ؟ فالعظمة تكون أقوى وأوضح وأسمى فيما لو جاء بعمل يعجز عنه العالم كله ، ولكان بهذا العمل فوق طاقة البشرية فيُرفَع إلى مرتبة أسمى من مرتبة البشر ، فأي مصلحة أو غاية لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن يؤلف القرآن –وهو عمل جبار معجز- وينسبه لغيره ؟

 



7- في القرآن الكريم أخبار الأولين بما يُغاير أخبارهم في الكتب المتداولة أيام محمد صلى الله عليه وسلم، فإن القرآن الكريم يحتوي على معلومات كثيرة لا يمكن أن يكون مصدرها غير الله . مثلاً : من أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم عن سد ذي القرنين – مكان يبعد مئات الأميال شمالاً- ؟وماذا عن سورة الفجر وهي السورة رقم 89 في القرآن الكريم حيث تذكر مدينة باسم إرَم " مدينة الأعمدة " ولم تكن معروفة في التاريخ القديم ولم يكن لها وجود حسب معلومات المؤرخين . ولكن مجلة الجغرافية الوطنية وفي عددها الذي صدر في شهر كانون الأول لعام 1978 أوردت معلومات هامة ذكرت أنه في عام 1973 اكتشفت مدينة إلبا في سوريا . وقد قدر العلماء عمرها بستة وأربعين قرناً ، لكن هذا لم يكن الاكتشاف الوحيد المدهش ، بل إن الباحثين وجدوا في مكتبة المدينة سجلاً للمدن الأخرى التي أجرت معها إلبا تعاملات تجارية ، وكانت إرم إحدى تلك المدن ! أي أن مواطني إلبا تبادلوا معاملات تجارية مع مواطني إرم !

 



8- وماذا عما فيه من إعجاز علمي في الكون والحياة والطب والرياضيات....وذلك بالعشرات بل والمئات ، فهل يُعقل أن هذا الأُمي قد وضعها ؟ كيف عرف الأمي :-

-
أن الأرض كروية بشكل بيضوي لقوله سبحانه ( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) (النازعـات:30)

-
أن الحياة ابتدأت من الماء .لا يمكن إقناع من عاشوا منذ أربعة عشر قرناً بهذا ، فلو أنك وقفت منذ أربعة عشر قرناً في الصحراء وقلت " كل هذا الذي ترى" وتشير إلى نفسك " مصنوع بأغلبيته من الماء " فلن يصدقك أحد ، لم يكن الدليل على ذلك موجوداً قبل اختراع الميكروسكوب . كان عليهم الانتظار لمعرفة أن السيتوبلازم وهي المادة الأساسية المكونة للخلية تتكون من 80% من الماء ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) (الانبياء:30)

-
أن هناك اختلافاً في التوقيت بين مناطق العالم ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (يونس:24) ومعنى الآية أنه عند نهاية التاريخ ومجيء يوم القيامة ، فإن ذلك سيحدث في لحظة ستصادف بعض الناس أثناء النهار وآخرين أثناء الليل ، وهذا يوضح حكمة الله وعلمه الأزلي بوجود مناطق زمنية ، رغم أن ذلك لم يكن معروفاً منذ أربعة عشر قرناً . إن هذه الظاهرة ليس بالإمكان رؤيتها بالعين المجردة ، أو نتيجة لتجربة شخصية وهذه حقيقة تكفي لتكون دليلاً على مصداقية القرآن الكريم.

-
نظرية انتشار الكون لقوله سبحانه ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (الذريات:47)

-
نظرية الانفجار الكبير ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ) (الانبياء:30)

-
أن كمية الهواء في الأجواء تقل إلى درجة أن الإنسان يضيق صدره فيها ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (الأنعام:125)

-
أن الشمس والقمر يَسبحان في هذا الفضاء لقوله سبحانه ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (الرعد:2)

9-
في القرآن عتب ولوم لمحمد صلى الله عليه وسلم في مواضع عديدة مثل :-

 



- سورة كاملة عنوانها " عبس " .من آياتها " عَبَسَ وَتَوَلَّى 1 أَن جَاءهُ الْأَعْمَى 2 وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى 3 أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى 4 أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى 5 فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى 6 وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى 7 وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى 8 وَهُوَ يَخْشَى 9 فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى 10 " .

- (
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) (التوبة:43)

- (
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (آل عمران:161)

- (
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (لأنفال:67)

- (
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) (التوبة:113)

- (
لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (لأنفال:68)

- (
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ) (الكهف:23)

- (
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ) (الكهف:24)

- (
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ) (الأحزاب:37)

- (
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (التحريم:1)

-
بل إن في القرآن الكريم تهدي ووعيد لنبي الله حيث يقول سبحانه ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ) ( لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) ( ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (الحاقة44-46)

وقوله سبحانه ( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) ( إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (الاسراء74-75)

هذا العتاب وغيره كثير ، فهل يُعقل أن يؤلف محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب ثم يوجه العتاب إلى نفسه ؟ وحوادث عديدة قام بها محمد صلى الله عليه وسلم آنياً مع أصحابه ثم تبدلت في نص القرآن فلم يجد في نفسه غضاضة ، فلو كان القرآن من عنده لما قام بها ودونها، لغَيَّرها وعمل الأنسب دون تسجيل الحادثة.

 




 






8- ودليل آخر : كانت تنزل بمحمد صلى الله عليه وسلم نوازل وأحداث من شأنها أن تحفزه إلى القول ، وكانت حاجته القصوى تلح عليه بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالاً ومجالاً ، ولكن كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام ولا يجد في شأنها قرآناً يقرؤه على الناس فقد حدث أن سأل عن أهل الكهف فقال إنه سيرد عليهم غداً على أمل أن ينزل الوحي بالرد ولكنه لم يقل إن شاء الله فنزلت الآيات الكريمة ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ) ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ) (الكهف23-24)

9-
وأهم من ذلك كله : كيف استطاع قرآن بشري أن يقوم بدعوة لتوحيد الله في أسلوب من القول والتوجيه لم تستطعه كتب السماء نفسها . هل هذا منطـــــــــــــــــــــــــق ؟؟؟؟؟؟؟؟

 



 

 



مصادر القرآن الكريم " أساطير الأولين"

 



من الشبهات الأخرى التي يثيرها المستشرقون أمثال نورمان دانيال ومن نحا نحوهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) ما جاء بجديد في القرآن وإنما أخذ بعضاً من اليهودية، وبعضاً من النصرانية، وبعضاً من قصص الفرس , فكان القرآن. وقد ذكر لنا ربنا جل جلاله هذا في كتابه الكريم فقال سبحانه :-

 



( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً ) (الفرقان:4)
(
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (الفرقان:5)
(
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (النحل:103)

ولرد تلك الشبهة على أصحابها أقول وبالله التوفيق : إن عنصر المعجزة لا يفارق القرآن حتى ولو صح الاتهام.

 



فإذا ثبت أن محتويات القرآن مقتبسة من اليهود والنصارى والفرس فإن صياغة القرآن ليست منهم لأن لغاتهم أعجمية، ولغة القرآن عربية في مستوى الإعجاز. وإذا بقي عنصر المعجزة في القرآن ـ ولو من ناحية واحدة، وهي ناحية الصياغة ـ يكون دليلاً على أنه من الله، ولا تبقى حاجة إلى إثبات أن القرآن معجزة في محتواه، كما هو معجزة في صياغته.

 



وقد اختلطت التهمة بالدفاع، فـ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (النحل:103) وهذا يعبر عن مدى صدمة القرآن لعقلية الجزيرة العربية.

 



والواقع: أن القرآن معجزة واضحة في صياغته، وهذه.. ما فهمتها الجزيرة العربية ومن ورائها الأدباء العرب في كل مكان وزمان.

 



ولكنه: معجزة أضخم في محتواه وهذه.. ما تفهمها العقول العلمية والقانونية إلى يوم القيامة.

 



غير أن الشبهة التي وسوست في الصدور ولا تزال نتجت من ملاحظة أن الناس شاهدوا في بعض آيات القرآن ما كانوا يتلقونه من ألسنة الأحبار والرهبان ـ بفارق بسيط ـ وما تتبادله الأمم من أمثلة وحكم.

 



ولا تزال الطوائف والشعوب تحتفظ في تراثها الديني والقومي بأمثال وقصص وحكم وردت في القرآن، وتاريخها يرجع جذورها إلى ما قبل نزول القرآن، فهي لم تأخذها من القرآن، فلا بد أن القرآن اقتبسها منها ونسبها إلى نفسه بعد أن طوّرها وأجرى عليها بعض التعديلات .

 



والجواب على هذه الشبهة :

 



إن التراث الديني الذي يحتفظ به الأحبار والرهبان وكل علماء الأديان من تركة الأنبياء (عليهم السلام).

 



وهذا ما لا ينكره علماء الأديان، وإنما يتبارون في تأكيد انتسابه إلى الأنبياء.

 



وأما التراث القومي الذي تحتفظ به الشعوب فلا يصح تجاهل تأثره بالأنبياء إلى حد بعيد، وخاصة في لمعاته الذكية لأن العناصر المفكرة في كل الشعوب، لم تكن بعيدة عن الأنبياء، لأن الله كان يواتر أنبياءه إلى كل الشعوب، والعناصر المفكرة كانت تأخذ منهم ـ آمنت أم لم تؤمن بهم ـ فترسبت تركة الأنبياء في مشاعر الشعوب، واحتفظت ببعضها في التراث، وإن لم تحتفظ بسلسلة سند كل قصة وحكمة.

 



ولهذا نجد في التراث القومي لكل شعب، لفتات روحية لا شك أنها من رواسب تعاليم الأنبياء. بل لو قارن الباحث خطوات الشعوب نحو الأمام مع حركة الرسالات؛ يتأكد من أن كل خير نالته البشرية عليه بصمة أحد الأنبياء، وإن طالت الفترة بين انبثاقه من النبوة ونضوجه كظاهرة على سطح الحياة .

 



فخير ما في التراث الديني وغيره للشعوب، هو تراث الأنبياء. والأنبياء جميعاً أخذوا عن الله. والله تعالى أعطى لكل نبي بمقدار استعداد قومه للأخذ، وأعطى لمحمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) أكثر مما أعطى لغيره. فكان في القرآن الكريم ما تركته الأنبياء لشعوبهم وزيادة فوجود مواد من التراث الديني وغيره لسائر الشعوب في القرآن؛ إن دلّ على شيءٍ فإنما يدل على وحدة المصدر، وهو الله سبحانه وتعالى .

 



 

 



مصادر القرآن الكريم " الراهب بحيرى"

 



زعم أعداء الإسلام أمثال المستشرق نورمان دانيال أن محمداً صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن الكريم من راهب نصراني اسمه بحيرى أو جرجيس أو سرجيوس .

 



وهم يعللون ذلك للتشابه بين بعض محتويات القرآن الكريم وكتب أهل الكتاب .

 



إن التشابه في بعض الأمور الدينية بين الأديان الثلاث ناتج عن وحدة المصدر وهو الله جلّ في علاه ، ومن المتعذر أن يكون نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم قد اقتبس تعاليمه من الإنجيل. وقد اعترف بعض المستشرقين بذلك ، فقد قال البروفيسور مونتجمري واط ".... إن من المستبعد أن يكون محمد قد قرأ الكتب الدينية اليهودية أو النصرانية [ص39] ... ومن الأرجح أنه لم يقرأ أي كتاب آخر".

 



وقد شاركه ج.س.هجسن نفس الرأي بقوله " إن قاعدة نبوة محمد من ناحية مبدأية هي نفس تجربة وأعمال أنبياء بني إسرائيل. لكنه لم يعرف شيئاً عنهم بشكل مباشر. ومن الواضح أن تجربته كانت خاصة "

هناك حديث يتعلق بأمر لقاء محمد صلى الله عليه وسلم بالراهب بحيرى وهذا نصه من سنن الترمذي :-

 



" حدثنا ‏‏الفضل بن سهل أبو العباس الأعرج البغدادي ‏ ‏حدثنا ‏ ‏عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏يونس بن أبي إسحق ‏ ‏عن ‏ ‏أبي بكر بن أبي موسى ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏قال ‏ :
‏خرج ‏ ‏أبو طالب ‏ ‏إلى ‏ ‏الشام ‏ ‏وخرج معه النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏في أشياخ من ‏ ‏قريش ‏ ‏فلما ‏ ‏أشرفوا ‏ ‏على ‏‏ الراهب ‏ ‏هبطوا فحلوا ‏ ‏رحالهم ‏ ‏فخرج إليهم ‏‏ الراهب ‏ ‏وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال فهم يحلون ‏ ‏رحالهم ‏ ‏فجعل يتخللهم ‏‏ الراهب ‏ ‏حتى جاء فأخذ بيد رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال ‏ ‏هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين فقال له أشياخ من ‏ ‏قريش ‏ ‏ما علمك فقال إنكم حين ‏ ‏أشرفتم ‏ ‏من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا ‏ ‏خر ‏ ‏ساجدا ولا يسجدان إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى ‏ ‏فيء ‏ ‏الشجرة فلما جلس مال ‏ ‏فيء ‏ ‏الشجرة عليه فقال انظروا إلى ‏ ‏فيء ‏ ‏الشجرة مال عليه قال فبينما هو قائم عليهم وهو ‏ ‏يناشدهم ‏ ‏أن لا يذهبوا به إلى ‏ ‏الروم ‏ ‏فإن ‏ ‏الروم ‏ ‏إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من ‏ ‏الروم ‏ ‏فاستقبلهم فقال ما جاء بكم قالوا جئنا إن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا فقال هل خلفكم أحد هو خير منكم قالوا إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا قال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده قالوا لا قال فبايعوه وأقاموا معه قال ‏ ‏أنشدكم ‏ ‏بالله أيكم وليه قالوا ‏ ‏أبو طالب ‏ ‏فلم يزل ‏ ‏يناشده ‏ ‏حتى رده ‏ ‏أبو طالب ‏ ‏وبعث معه ‏ ‏أبو بكر ‏ ‏بلالا ‏ ‏وزوده ‏‏ الراهب ‏ ‏من الكعك والزيت ‏".

 



قال ‏ ‏أبو عيسى ‏ ‏هذا ‏ ‏حديث حسن غريب ‏ ‏لا نعرفه إلا من هذا الوجه

هذا حديث موضوع لعدة أسباب :-

1-
إن معظم الرواة يُعتبرون بطريقة أو بأخرى غير ثقاة
2-
إن سلسلة الرواة تعتبر منقطعة
3-
إن الراوي الأول ليس شاهد عين للحدث أو طرف فيه.

ولتفصيل ذلك أقول وبالله التوفيق :-

1-
الفضل ابن سهل ابن إبراهيم الأعرج: كان راوياً قوياً ،ولكن هناك تحفظات بالنسبة له. يقول الخطيب البغدادي :-

 



قال لي أحمد ابن سليمان ابن علي المقرىء عن أبي سعيد أحمد ابن محمد الملِني عن عبدالله ابن عدي قال "سمعتُ عبدان يقول أنه سمع أبا داود الساجستاني يقول أنه لم يُحب رواية بعض الأحاديث عن الفضل الأعرج" فسألته عن السبب. فأجاب كيف يمكن أنه لم يصدر عنه أي حديث صحيح" . قال ابن عدي أنه سمع أحمد ابن الحسين الصوفي يقول أن الفضل ابن سهل الأعرج كان شخصاً ماكراً كالثعالب ومراوغاً ومخادعاً.

2-
عبدالرحمن ابن غزوان : رغم أن معظم النقاد وضعوه في صف الرواة الأقوياء والموثوق بروايتهم ،إلا أنه لم يسلم من اللّوم فقد قال عنه الإمام المِزّي :-

 



قال ابن حبان عنه لقد اعتاد ارتكاب الأخطاء.فإن روايته لقصة المماليك عن الليث عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة تؤلم وتزعج العقل والقلب.

4-
يونس ابن أبي إسحق:يروي صالح ابن أحمد ابن حنبل عن علي المديني أنه قال عندما ذُكر يونس ابن إسحق: " كان الإهمال وعدم الاهتمام صفة متأصلة في شخصه ".يستشهد بُندار بقول سَلم ابن قتيبة "جئت من الكوفة. وقد سألني شعبة عمن رأيت هناك ، فقلت رأيت فلاناً وفلاناً ، وقابلت أيضاً يونس ابن إسحق ، ثم سألني وأي حديث نقل إليك ، فرويت له ما سمعت ، فسكت برهة قلتُ له أن يونس قال " قال لي بكر ابن ماعز" فقال شعبة " ألم يقل أن عبدالله ابن مسعود روى له ؟ (وكان ذلك مستحيلاً وبوضوح نظراً للفارق الزمني بينهما. وهذا يعني أن شعبة ينظر إليه على أنه مبتدع) يقول أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبدالله عندما ذُكر اسم يونس ابن أبي إسحق يصنف روايته عن أبيه بأنها غير موثوقة. لقد أخبر أبو طالب أحمد ابن حنبل أن هناك إضافات على روايات الأشخاص في حديث يونس ابن إسحق، وقد سمع ابنه إسرائيل ذلك ودَوّنه من أبي إسحق ، لكن لا توجد أيّ إضافات كإضافات يونس. قال عبدالله ابن أحمد ابن حنبل " لقد سألت أبي عن يونس ابن أبي إسحق فأجاب أن رواياته ضعيفة ومشوشة....وأنه كذا وكذا " قال أبو هيثم أنه كان موثوقاً به، لكن أحاديثه يصعب تصديقها واتخاذها دليلاً على شيء.

 



(يتبع إن شاء الله تعالي بالجزء الثاني)

 




 




 




تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة