حادثة الإفك والعبر العظيمة

حادثة الإفك والعبر العظيمة


 قال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن نفسها حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها، عن هؤلاء جميعا، يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها بما سمع، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه، فلما كان غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه،



فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق، لم يهجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين كانوا يرحلون لي، ويحملونني فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به.
 


قالت: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك، وجه قافلا، حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا، فبات به بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس، وخرجت لبعض حاجتي، وفي عنقي عقد لي، فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي، ولا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي، فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه، فألتمسته حتى وجدته، وجاء القوم خلافي، الذين كانوا يرحلون لي البعير، وقد كانوا فرغوا من رحلته، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه، كما كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر، وما فيه داع ولا مجيب، قد انطلق الناس.
 


قالت: فتلففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لرجع إلي.


قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وقد كان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي فأقبل حتى وقف عليّ، وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأنا متلففة في ثيابي
.


قال: ما خلّفك، يرحمك الله؟


قالت: فما كلمته. ثم قرب إلي البعير
فقال: اركبي. واستأخر عني.


قالت: فركبت، وأخذ برأس البعير، فانطلق سريعا يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي
فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك، ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة، لا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي، لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي، كنت إذا اشتكيت رحمني، ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك، فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل عليّ وعندي أمي تمرضني .....
قال: كيف تِيكم؟ لا يزيد على ذلك.


قالت: حتى وجدت في نفسي فقلت: يا رسول الله - حين رأيت ما رأيت من جفائه لي - لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟


قال: "لا عليك".


قالت: فانتقلت إلى أمي، ولا علم لي بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة، وكنا قوما عربا، لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة وإنما كانت النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن .

فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح، ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، خالة أبي بكر الصديق.


قالت: فوالله إنها لتمشي معي، إذ عثرت في مرطها
فقالت: تعس مسطح. ومسطح لقب، واسمه عوف.
قالت: فقلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين، وقد شهد بدرا. قالت: أوَما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟!
قالت: قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك.
قلت: أوَقد كان هذا؟!
قالت: نعم والله لقد كان.
قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي، ورجعت، فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي.
قالت: وقلت: لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟!
قالت: أي بنية، خفضي عليك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثرن، وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم، ولا أعلم بذلك، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيرا ويقولون ذلك لرجل؛ والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي".
قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول، في رجال من الخزرج، مع الذي قال مسطح، وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن امرأة من نسائه تناصيني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضادني لأختها، فشقيت بذلك، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن حضير:" يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج، فمرنا أمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم".


قالت: فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا، فقال: كذبت، لعمر الله، لا تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: وتساور الناس، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليّ.


قالت: فدعا علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله، ثم قال: يا رسول الله أهلك وما نعلم منهم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل.


وأما علي فإنه قال: يا رسول الله، إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك.


فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها.
قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا، ويقول: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا، إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله. قالت: ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي، وعندي امرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي، فجلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس، فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده.
قالت: فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك، فقلص دمعي، حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتكلما.
قالت: وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي، وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرآنا يقرأ به ويصلى به، ولكني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه شيئا يكذب به الله عني؛ لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبرا، وأما قرآنا ينزل فيّ، فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك.
قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان، قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه.
قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام.
قالت: فلما استعجما عليّ، استعبرت فبكيت، ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني منه بريئة، لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون، لا تصدقونني، قالت: ثم التمست اسم يعقوب، فما أذكره، فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف:"فصبر جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ"
قالت: فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت وما باليت، قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده، ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننت لتخرجن أنفسهما، فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس.
قالت: ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وإنه ليتحدر من وجهه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة، قد أنزل الله عز وجل براءتك.
قالت: قلت: الحمد لله .
 


ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم .
وهذا الحديث مخرج في "الصحيحين" عن الزهري. وهذا السياق فيه فوائد جمة، وذكر حد القذف لحسان ومن معه رواه أبو داود في "سننه


قال تعالى :"( إنَّ الذين جَاؤُوا بالإفكِ عُصْبَةُ منكم ، لا تحسبوه شراً لكم بلْ هو خيرُ لكم ، لكل امرىءٍ منهم ما اكتسبَ من الإثم ، والذي تولَّى كِبْرَهُ منهم له عذابٌ عظيمٌ ، لولا إذ سمعتُموه ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ")


.....................................


كتبة الاخ : السيف البتار

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة