البـابيـة في سطور

البـابيــــة


 


يبدو من أول لحظة لقراءة كلمة الباب غرابة استخدامها في هذا المجال وفي مثل هذه الموضوعات، فما الذي أدخَل الأبواب والنوافذ في مجال الأفكار ومناقشة الآراء، وتزول هذه الغرابة عد معرفتنا فكرة استخدام مثل هذه الألفاظ للتعريف بمعنى الواسطة الموصلة إلى الحقيقة الإلهية.


 


ولم يكن الباب هذا إلا شاباً إيرانياً يدعى على محمد الشيرازي، ‏ولد في أول المحرم من عام 1235هـ من أب يدعى "السيد محمد رضا" غير أن خاله " سيد على " هو الذي كفله وأشرفَ على تربيته وعمل معه نجاراً ‏وحينما اشتد عوده سلَّمه خاله إلى معلم اسمه" الشيخ محمد عابد " وقد لوحظ على هذا الغلام مذ صغره إعراضه عن العلم وولعه بالرياضات الروحية والدراسات النفسية والتأملات الفكرية المستمدة من الفلسفات الشرقية القديمة، وقد آمن بما يدعو إليه المذهب الشيخي ولم يتجاوز عمره تسعة عشر عاماً، ووجدت هذه الدعوة في نفسه مرتعاً خصباًَ لها ففرغ لها كل وقته وعمره وكان من أخلص أفرادها وأكثرهم نشاطاً وحيوية. .


      


وعلى حين غرة من الجميع أعلن في إيران عام  1844م،  وعلى لسان زعيم الطائفة الملا حسين البشرؤي ظهور" ‏الباب" الذي هو دليل إلى الإمام وباب يوصل له فبايعه على ذلك وأوكل إليه الأتباع ولم يكن عمره وقتئذ يزيد على خمسة وعشرين عاماً، وآمن به تلاميذ الرشتي وعلماء الشيخية، فاختار منهم ثمانية عشر مبشراً لدعوته سمّاهم" حروف حي"، ومع أنه لم يدم في دعوته غير سبع سنين تقريبا قضاها متنقلاً بين كثير من المدن والبلدان المختلفة إلا أنه استطاع بث كثير من الأفكار والمبادئ المنحرفة التي جمع أشتاتها من المذهب الإسماعيلي وأفكار السبئيين والوثنيين الهنود فجاء بمزيج واضح البعد عن العقيدة الإسلامية.


 


وقد ضَمَّن هذه الأفكار في كتاب سماه "البيان"، الذي حاول جاهداً إضفاء صفة الشرعية عليه وعدم خروجه عن نطاق الدين الإسلامي وحتى يُلبس على الماهر الحق بالباطل ويشكك العامة والدهماء في دينهم،  ‏ذَكَر أن كتاب " البيان" جاء ذكره في القرآن الكريم، بل وأمر الله سبحانه وتعالى باتباعه والعمل بما جاء فيه إذ قال تعالى:" الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" سورة الرحمن1-4


وذكر ابن قتيبة شيئاً مما يعتمدونه لترقيع باطلهم بشيء من القرآن فذكر في كتابه " مختلف الحديث " استدلالهم بقول الله تعالى:" {هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }آل عمران138



عندما رأى الشيرازي إيمان الناس به والتفافهم حوله وتشجيعهم له وتصديقهم لكل ما يقول خرج عليهم بفكرة أنه وحده الناطق بعلم الإمام المستور بصفته الباب المؤدى له. وكما يذكر الشيخ محمد أبو زهرة في كتاب" تاريخ المذاهب الإسلامية": « وقد أوتى ( الشيرازي ) بمقتضى الوصاية التي اختص بها من سبقه علما يتبع وهو مصدر الهداية والمعرفة، بهذا الفرض الذي فرض به أنه أوتى علم الإمام النوراني أصبح عنه أتباعه حجة فيما يقول لا معقب لقوله كشأن الإمام تماما، فوجد في أتباعه طاعة مطلقة وتلقياً لكل ما يقوله بالقبول ».



ولم يقف التطاول بزعيم البابية عند هذا الحد، وإنما ادعى أنه أفضل من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه المسمى بالبيان أفضل من القرآن.


 


ولم يكتف الشيرازي عند هذا الحد من السفه والضلال بل وصل إلى درجة ادعاء أنه مظهر الله لخلقه، وأنه أيضاً السبيل لظهور موسى وعيسى في آخر الزمان ( من الواضح أنه لم يكتف برجوع عيسى وحده كما هو الاعتقاد العام بل أضاف إليه موسى إيغالاً في المخالفة والاستخفاف بالعقول، وطعناً في النصوص الثابتة ).



ومع كل هذا الضلال والبهتان، وتعمده خلط الأمور ببعضها حظى الشيرازي بعديد من الألقاب التي خلعها عليه الأتباع منها على سيبل المثال: ( الباب - النقطة الأولى - المثال الأعلى - ربنا الأبهى ).



لم يقف العلماء مكتوفي الأيدي أمام هذه الدعاوى التي تجاوزت حدود الصمت والمسالمة إذ أنه زعم لنفسه منزلة تناقض تمام المناقضة الحقائق الإعلامية والعقائد التي جاء بها القرآن، ونصت عليها السنة النبوية، ويمثل تحدياً واضحاً للإسلام، والإتيان بزعم جديد ما أنزل الله به من سلطان، فوقفوا في وجهه وقفة رجل واحد متكاتفين ومترابطين وتناسوا كل الخلافات التي تَحول دوماً دون اتحادهم، فانتشروا في كل مكان يوضحون فساد هذه النحلة وخطر هذه الزندقة إلا أنه لم يُلقِ بالاً بمناوأة العلماء له بل أخذ ينفر الناس منهم ويرميهم بالنفاق والمطامع الدنيوية، وتملق ذوى السلطان،  ولم تجد السلطات الإيرانية - وقتئذ - مفراً من الاستجابة لنداء العلماء على مختلف مذاهبهم بعد أن تجاوب معهم جموع غفيرة من المسلمين الذين خافوا على دينهم من الآراء الدخيلة الباطلة فقاموا بثورة عارمة اجتاحت كل البلاد أجبرت السلطات على إثرها على إلقاء القبض على رأس الفتنة وتقديمه لمحاكمة إسلامية عادلة، فأعلن العلماء مروقه عن الإسلام وكفره، وأفتوا بوجوب قتله، بينما استطاع أعوانه أن يهربوه ويخفونه في قصر خورشيد.


 


ونظّم أتباع الباب مؤتمرا في بادية" بدشت"بإيران في شهر رجب1264هـ ‏هذا المؤتمر الذي دعا فيه زعماء البابية العوام إلى الخروج في مظاهرات احتجاج على اعتقال الباب، وأعلنوا أيضا نسخ الشريعة الإسلامية بشريعة "البيان"هذا الكتاب الذي ألفه الباب أثناء اختفائه في قصر خورشيد ‏وبعد هذا المؤتمر هاجت الحكومة الإيرانية، وفتشت عن الباب حتى قبضت عليه، فلجأ مرة أخرى للتظاهر بالتوبة وبراءته مما نسب إليه وأقسم بألا يخرج من بيته أو يتصل بأعوانه، وهو الأمر الذي لم يُرض أعوانه وأتباعه فظلوا يتصلون به، فقبضت عليه الحكومة الإيرانية للمرة الأخيرة وحكمت عليه هو واثنين من أعوانه بالإعدام رمياً بالرصاص أمام العامة، وتم تنفيذ الحكم على الرغم من الوساطات الروسية والبريطانية تلك التي لم تنجح في الصفح عن الباب، وعلى الرغم من إعلان الباب نفسه التراجع عن أفكاره لكن خطر دعوته والاضطرابات التي أثارها وسفكه لدماء المخالفين له والمنكرين دعوته كل هذا شجع الحكومة الإيرانية والأسرة الإيرانية الحاكمة على تنفيذ الحكم، والذي تم بالفعل سنة1849م.



وفي ميدان عام أطلق وابل من الرصاص على جسد الباب فجعله كالخرقة الممزقة، ولم يبق موضع لم يطله الرصاص إلا وجهه، ‏فلما غادرت الفرقة المنفذة للحكم حمل أتباع الباب جثمانه ليد فنوه، فهربوه سرا إلى الآستانة ثم فيما بعد إلى عكا ليدفن هناك في مقبرة يحج إليها البهائيون إلى الآن.



كان الباب قد أوصى أن يخلفه في زعامة الطائفة ساعده الأيمن أحد الحروف الثمانية عشر (حروف حي) الميرزا يحيى الملقب من قبل الباب بـ"صبح الأزل" لكن بغياب الباب بدأ فصل آخر من الصراع الدامي في قصه البابية والبهائية، صراع على السلطة الدينية وصراع على الزعامة والنفوذ، وهي صراعات تغوي من يطمع فها بارتكاب أكبر الحماقات، وربما أفظع الجرائم...



جزى الله خيرا
تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة