« نقض توهمات منكري الحياة الأخرى »






نقض توهمات منكري الحياة الأخرى

من كتاب :

صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

تأليف

عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

لدى البحث عن المستندات الفكرية التي يستند إليها منكرو الحياة الآخرة يتبين لنا أنهم لا يملكون أية مستندات فكرية صحيحة ، إنما هم بين العناد والتوهم .

أما العناد فهو مذهب المكابرين الذين لا ينفع معهم الجدل المنطقي ، والمناظرة العلمية .

وأما التوهم فهو طريقة كثير من المنكرين الذين يندفعون وراء توهمات يتصورونها أدلة ، وليست هي بأدلة .

إن الحياة الأخرى ليست من المستحيلات العقلية حتى يجحدوها الجاحدون بحجة الاستحالة ، ولكنها من الممكنات العقلية ، وظهور الحياة الأولى أعظم شاهد تجريبي على إمكان الحياة الأخرى ، وبعد إثبات الإمكان الفعلي تبقى لدينا مرجحات إثبات الوقوع ، وقد رأينا بالأدلة النظرية أن مرجحات إثبات الوقوع مرجحات قوية ، فإذا انضمت هذه الأدلة النظرية إلى التبليغات الربانية التي أخبرنا بها رسل الله الصادقون وجدنا أن الحياة الأخرى قضية حتمية لا مناص للعقلاء من الإيمان بها ، والتسليم بما جاء عنها من أخبار صادقات .

وقد رأينا أن طريقة القرآن في محاجَّة منكري الحياة الأخرى من الماديين الملحدين ، الذين لا يؤمنون بالله ، طريقة تتضمن العودة بهم إلى نقطة الخلاف الأولى الأساسية ، وهي الإيمان بالله تعالى ، فهو يقيم لهم دليلاً مزدوج الهدف ، يلفت النظر إلى حقيقة الإيمان بالله تعالى وبكمال صفاته ، ويوجِّه إلى أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلق هذا الكون عبثاً ، تنتهي حياة الإنسان فيه بنهاية حياته الأولى . ومتى أدرك المتفكر هاتين الحقيقتين تفتحت مغاليق فكره وفؤاده للتسليم بالحياة الأخرى ، كما جاءت بها الأخبار الصحيحة الصريحة الصادقة التي أخبر بها الرسول .

أما طريقة القرآن في محاجَّة الآخرين ، فهي تشتمل على النظر في توهماتهم التي استندوا إليها فيما ذهبوا إليه من الرفض ، والرد عليها بإثبات الحق المناقض لهذه التوهمات ، وقد استقصى القرآن الكريم في مواضع مختلفات توهماتهم وردها واحدة فواحدة بالحجج الدامغة .

وفيما يلي تتبع لهذه التوهمات وللرد القرآني عليها:

* التوهم الأول :

توهم ظهر على ألسنة المشركين أيام الرسول e ، وخلاصته أن القدرة التي قدرت على ابتداء خلق الإنسان لا تقدر على إعادته .

وقد سلك القرآن في إقامة الحجة على المنخدعين بهذا التوهم طريقين :

* الطريق الأول :

طريق إظهار واقع التساوي بين الإعادة والبدء ، وبيان أن شبهة التفاوت شبهة باطلة ، إذ أن قدرة الله التي قدرت على ابتدائهم إبداعاً ، قادرة على خلقهم بعد فنائهم إرجاعاً ، فالأمران مستويان ، بل الإعادة أهون في نظر الناس وحدود قدراتهم من الابتكار والإبداع .

فمن يسلِّم بأن الله قد بدأ الخلق حتم عليه بأن يسلِّم بأنه تعالى قادر على إعادته ، بل هو أهون عليه .

وقد رد القرآن على أبيّ بن خلف شبهته هذه ، بقول الله تعالى في سورة (يس/36 مصحف/41 نزول):

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}.

وأكد حقيقة التساوي بين الإعادة والابتداء بقوله تعالى في سورة (مريم/19 مصحف/44 نزول):

{وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}.

وبين الله في نص آخر أن إعادة الخلق أهون من ابتدائه ، فإذا ثبت الابتداء بالمشاهدة تثبت الإعادة الموعود بها من باب أولى ، فقال تعال في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول):

{وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}

* الطريق الثاني:

طريق التنبيه على مظاهر قدرة الله في السماوات والأرض ، وذلك أنه إذا كابر المنكر بعد إقامة الدليل بإظهار واقع التساوي بين الإعادة والبدء ، فقال : الإعادة أشد من البدء مصراً على توهمه هذا ، أتاه الجواب القرآني بنقله إلى ما هو أكبر في تصوره من ابتداء خلق الإنسان وإعادته ، ألا وهو خلق السماوات والأرض .

إذ من المعلوم بالبداهة الحسية أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، في ابتدائهم أو في إعادتهم ، وهذا ما أشارت إليه آية (الروم) السابقة:

{وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}

ونلاحظ أن الاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرة الله تعالى على أن يحيي الموتى كثير في آيات القرآن المجيد :

فمنها قول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول):

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

ومنها قول الله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول):

{لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }

فبعد إثبات أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس نبه النص على أنه لا يصح التسوية بين الأعمى والبصير ، ولا بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئين ، إن حكمة خالق هذا الكون الكبير المتقن البديع تأبى هذه التسوية ، وإذا كانت هذه التسوية مرفوضة فإن أمر الجزاء واقع لا محالة ، وذلك يكون يوم القيامة ، وإذ وصل النص إلى إبراز هذه الحقيقة قرر أن الساعة آتية لا ريب فيها .

أي: فخلق السماوات والأرض شاهد على إمكان إعادة خلق الإنسان بعد فناء جسده ، والداعي لهذه الإعادة قانون الجزاء الحكيم .

* التوهم الثاني:

توهم أن خلق السماوات والأرض وخلق الأحياء قد أصاب الخالق بالإعياء تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

ولقد رد القرآن هذا التوهم ببساطة ووضوح ، وذلك بإثبات أن خلق الله للأشياء كلها إنما يكون بتوجيه الإرادة والأمر ، فإذا أراد أن يخلق شيئاً قال له : كن فيكون ، ومن كان أمر خلقه كذلك فلا يمكن أن يصيبه الإعياء في القدرة أبداً .

وقد نفى الله أن تصاب قدرته بالإعياء بسبب خلقه للسماوات والأرض وما فيهن ، فقال تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول):

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

وعدم الإعياء بالخلق هو مقتضى قدرة الرب الخالق ، ولذلك قال الله تعالى مستنكراً لو أن تفكيرهم ، متسائلاً تساؤل المتهكم بإنكارهم في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول):

{أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}

أي : بل هم في شك من إمكان خلق جديد لمن سبق له أن خُلق ثم مات وفني جسمه .

وبين الله مدى قدرته العظيمة على ما خلق ما يريد من شيء بمجرد توجيه أمر التكوين له ، فقال تعالى في سورة (يس/36 مصحف/41 نزول):

{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}

على أن نفي الإعياء ومناقشة المنكرين في هذا الأمر ، وكذلك مناقشتهم حول بعض التوهمات الأخرى ، إنما هو تنزل من الخالق العظيم إلى مستوى تفكير المنكرين وعقولهم الساذجة ، لإقامة الحجة عليهم من جميع الوجوه ، ومحاصرتهم محاصرة فكرية ملزمة بالحق ، على أن في هذه البيانات لفت نظر إلى حقيقة الربوبية ، وأن من مقتضى خصائص صفات الربِّ الخالق قدرته الكاملة على الخلق ، وهذه القدرة لها صفة البقاء الأزلي الأبدي ، فهي لا تتناقص ، ولا تختل ، ولا تعرض لها عوارض التغير ، فلله الخالق الأزلي الأبدي كلُّ صفات الكمال المطلق .

* التوهم الثالث:

توهم المنكرين أن من يموت من الناس يضل رفاته في الأرض ، فتذهب صورته وصفاته ، فكيف يرجع الله هذه الذوات والصفات ، وكيف يجمع هذه الذات المتفتتة من عظامهم؟

وأثر هذا التوهم يظهر في توهمهم أن علم الله غير محيط بكل صغيرة وكبيرة من أعداد الذين يموتون من الناس ، وغير محيط بصفاتهم وأوضاعهم وأعمالهم .

وقد ذكر الله مقالتهم التي تدل على هذا التوهم من توهماتهم ، بقوله تعالى في سورة (السجدة/32 مصحف/75 نزول):

{وَقَالُوۤاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}

أي: بل علة نفوسهم أنهم لا يريدون أن يقبلوا مبدأ لقاء ربهم ، حتى لا يحجزهم اعتقاد هذا المبدأ عن الانطلاق في الفجور ، وما يوردونه على قضية الآخرة وما فيها من حساب وجزاء ليس إلا تعلاَّت.

وذكر الله مقالتهم هذه أيضاً في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول) فقال تعالى :

{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبئُكُمْ إِذَا مُزقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ}.

أي : فهم في عذاب في حياتهم يأتيهم من داخل نفوسهم المجرمة المتمردة على الحق ، وهم في الضلال البعيد في عقيدتهم وفي سلوكهم .

ولدفع هذا التوهم من توهماتهم تنزل الله إلى مستوى مداركهم فأثبت لهم إحاطة علمه بكل شيء ، ومن ذلك علمه سبحانه الذين يموتون أعداداً وصفات كاملة ، وأن من مقتضى كونه تعالى هو الرب الخالق ، والموجود الأزلي الأبدي ، أن يتناول علمه كل ما يجري في مخلوقاته ، حتى ما توسوس به نفوس الناس من غير أن ينطقوا به ، ودون أن يسمعه منهم أحد . وأثبت لهم أيضاً أن الملائكة الكرام الكاتبين والملائكة الذين يقبضون الأرواح ويتوفون الأنفس يسجلون كل واحد من الناس أحياءً وأمواتاً ، بذواتهم وصفاتهم وأفعالهم وأقوالهم في كتاب حفيظ .

وفي الرد على هذا التوهم الذي يحتمل أن يكون مصدر تعجبهم إذ قالوا:

"أئذا متنا وكنا تراباً؟ ذلك رجع بعيد" قال تعالى في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول):

{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}

وأثبت الله إحاطة علمه بكل صغيرة وكبيرة في مقام عرض إنكارهم للساعة وذلك على سبيل الرد عليهم فقال تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):

{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}

وشاهد هذا الشمول العلمي لله تعالى سير كل شيء في هذا الكون ضمن نظام محكم دقيق لا يعتريه أي خلل ، وهذا يسقط توهمهم .

وفي بيان إحاطة علمه تعالى بما توسوس به نفوس الناس دون أن يطلعوا عليه أحداً ، قال سبحانه في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ}

وفي بيان مراقبة أقوال الناس وحفظها قال الله تعالى في سورة (ق/50 مصحف/34 نزول):

{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

وحين يلاحظ المنكرون هذه الحقيقة من حقائق الرب الخالق يسقط هذا التوهم من توهماتهم ، ويعرفون أن الله على كل شيء قدير ، ويعلمون أن وعد الله حق .

على أنهم لو نظروا فيما انتهت إليه البحوث العلمية لرأوا أنها قد أثبتت هذا السجل الكوني الكبير ، الذي تسجل فيه الأعمال كلها ، والأقوال ، وخواطر الأنفس ، ووساوسها ، ونياتها .

لقد أثبت العلماء أن كل حرف نقوله وكل عمل يصدر عنا يسجل في الأثير ، ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله ، متى تهيأت الأجهزة القادرة على كشف ما في هذا السجل الكبير ، والتحكم بموجاته ، فصور كل كائن من القرون الأولى وأصوات كل كائن مسجلة تسجيلاً كاملاً ، منذ وجوده حتى آخر وجوده لحظة بلحظة ، لا يضيع منه شيء صغيراً كان أو كبيراً ، في النور أو في الظلمات ، في السرِّ أو في العلن ، وأثبتت التجارب العلمية أن جميع أفكارنا وخواطرنا تحفظ في شكلها الكامل وفق تسلسلها ، ولسنا بقادرين على محوها أبداً ، وإن نسيناها في عقلنا الظاهر أو في مستوى شعورنا ، إنها تظل محفوظة أبداً لدينا فيما يسمى عند علماء النفس (ما تحت الشعور) وما هو محفوظ فيما تحت الشعور هو الجانب الأكبر من مجموع المحفوظات في كياننا الإنساني ، فالقضية لا تحتاج يوم القيامة أكثر من كشف الغطاء عن مستوى ما تحت الشعور ، وعرض شريط صور (فيلم) حياتنا كلها المسجل في الأثير[1] .

فهذا التوهم القديم الذي لم يكن يتصور مدى هذا التسجيل قد أصبح ساقطاً اليوم بالمكتشفات العلمية ، وتحقق قول الله عز وجل في سورة (فصلت/41 مصحف/61 نزول):

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}

* التوهم الرابع :

توهم أن الأشياء التي لا يشاهدونها بالحس ينبغي أن لا يسلِّموا بها ، وأن لا يصدقوها ، فما لم يحدث فعلاً أمام أعينهم بشكل متكرر فهو ممتنع الوقوع .

وأصحاب هذا التوهم قد سيطرت حدود حواسهم الظاهرة على قوة التجريد العقلي فيهم ، فزعموا عدم إمكان العبث ، لأنهم لم يرَوا حياة بعد موت .

وهل باستطاعة أصحاب هذا التوهم أن يلتزموا مذهبهم في كل الحقائق التي يبحثونها أو يمؤنون بها؟

إن معظم النظريات العلمية التي يثبتها العلماء الماديون تشتمل على مضامين لم تشاهد بالحس ، وإنما استنتجها العلماء استنتاجاً عن طريق تعليل الظواهر وتفسيرها .

وكثير مما كان يثبته الإنسان القديم وما يزال يثبته الإنسان الحديث لا يعتبر داخلاً في نطاق الأمور التي يمكن إدراكها بالحس ، كالعقل والروح ، والقوى التي لا تشاهد إلا آثارها وظواهرها .

ولكن رغم أن هذا التوهم مرفوض بداهة قد يكابر به بعض المعاندين ، فيزعم بوقاحة أن الأشياء التي لا يشاهد لها أمثلة واقعة هي ممتنعة الوقوع .

ولنا مع أصحاب هذا التوهم محاكمات كثيرة ، نلزمهم فيها بإثبات أشياء كثيرة في أنفسهم ، وفي الكون من حولهم ، يستنتجون هم وجودها استنتاجاً ، مع أنها غير مدركة بأية حاسة من حواسهم .

ومع كل هذا فقد تنزَّل القرآن إلى مستوى مداركهم فضرب أمثلة مدركة بالحس دائمة الوقوع في الكون ، تُقرِّب إلى تصوراتهم صورة الحياة بعد الموت .

إن جفاف الزرع وانقطاع تغذيته من الأرض ، وحصاده وتحطمه ، يشبه حالة الموت في الأحياء ، ثم إن السنة الكونية الدائمة الظاهرة المشاهدة في عملية انشقاق الحبوب في بطن الأرض ،ونباتها بعد ما سبق من حالتها التي تشبه حالة الموت ، وعودتها إلى الحياة والنضر كرَّة أخرى ، وذلك عند وجودها في البيئة الملائمة من ماء ممتزج بالتراب الصالح ، لتعطي تقريراً حسياً مشاهداً باستمرار في الظواهر الكونية لقصة بعث الحياة بعد موت الأجساد الحية ، وتفرُّق أجزائها في تراب الأرض ز

وقد نبَّه القرآن على هذا الشاهد الكوني الذي يقرب إلى تصور أصحاب هذا التوهم إمكان الحياة الأخرى ، وأنها تشبه عودة الحياة إلى الزروع والنباتات بعد جفافها وما يشبه حالة الموت فيها .

فقال الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول):

{وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ}

وقال أيضاً في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول):

{فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَةِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

وقال أيضاً في سورة (فصِّلت/41 مصحف/61 نزول):

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

يضاف إلى هذا الشاهد المتكرر ما ضربه الله من أمثلة تجريبية واقعية ، أجراها في أزمنة ماضية لحياة الإنسان بعد الموت .

فمن ذلك حادثة أهل الكهف وكيف ضرب الله على آذانهم ثلاثة قرون وتزيد ، ثم أعثر عليهم ليعلم الناس بشهادة الحس كيف يحيي الله الموتى ، وقص الله علينا قصتهم في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) ثم قال تعالى :

{وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا..}.

ومن ذلك أيضاً قصة (العزيز) الرجل الصالح من بني إسرائيل ، إذ مر على قرية أموت فقال : "أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟" فأماته الله مئة عام ثم بعثه وشاهد مشاهدة حسية كيف أحياه الله بعد أن أماته ورأى بنو إسرائيل من أهل قريته هذا الحدث التاريخي العجيب ، وقد أخبرنا الله تعالى بهذه القصة في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) فقال:

{أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

ومن ذلك أيضاً قصة إماتة الألوف من بني إسرائيل حين أمروا بقتال عدوهم ، فخرجوا من ديارهم فارين من مقابلة العدو حذو الموت ، ثم بعد هذه الإماتة الجماعية أحياهم الله ليعملوا أن الفرار من القتال لا يحمي من الموت ، وليعلموا أن البعث حق ، وقد ذكر الله قصة هؤلاء في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) فقال تعالى :

{أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}

ومن ذلك أيضاً قصة إحياء قتيل بني إسرائيل ،لسؤاله عن القاتل ، وهذه القصة قد أخبرنا الله بها في أوائل سورة (البقرة) وقد أوجز المفسرون هذه القصة بأنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر له ابن واحد ، قتله ابن عمه طمعاً في ميراثه ، ثم جاء يطالب بدمه قوماً آخرين ، فأنكر المتهمون قتله ، وترافع القوم إلى موسى عليه السلام ، كل منهم يدرأ التهمة عن نفسه ، فقال لهم موسى : إن الله يأمركن أن تذبحوا بقرة ، وذلك ليتبين لهم القاتل الحقيقي فقالوا له : أتهزأ بنا؟ فقال موسى : معاذ الله أن أكون من الجاهلين ، فسأل بنو إسرائيل موسى عليه السلام عن أوصافها ، وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، ثم عثروا عليها وذبحوها وما كادوا يفعلون ، ثم ضربوا جسد القتيل ببعض البقرة التي ذبحوها وفق الأمر الإلهي ، فأحيا الله القتيل وأخبر عن قاتله .

ومن ذلك أيضاً قصة إحياء الطيور الأربعة لسيدنا إبراهيم عليه السلام ، لما سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى .

ومن ذلك أيضاً معجزة عيسى عليه السلام ، إذ كان يحيي الموتى بإذن الله ، كما هو معلوم من معجزاته وآيات رسالته .

* التوهم الخامس :

توهم المنكرين أن مراد الخالق في إبداع الحياة وخلقها لا يتعدى حدود هذه الحياة الأولى ، وأن كل حكمته من الخلق تتم فيها .

وهذا التوهم فيه اتهام لحكمة الخالق بالعبث ، وهو ما سبق أن ناقشنا به منكري اليوم الآخر قبل أن نطرح توهماتهم للمناقشة ، وذلك لأن منحة العقل ، والإرادة الحرة ، وبعض القدرة على التنفيذ تستلزم المسؤولية ، وإلا نجم عنها الفساد الذي لا حدود له دون غاية ، وهو أمر ينافي الحكمة ، والمسؤولية تستلزم المحاسبة والجزاء ، وإلا كانت مسؤولية شكلية لا قيمة لها ، وهو أمر ينافي الحكمة أيضاً ، والجزاء يقتضي العقاب والثواب ، وإلا كانت مسؤولية ناقصة تنهى عن الشر ولا تأمر بالخير ، أو لا تشجع على الارتقاء في درجات الفضائل ، وهو أمر ينافي كمال الحكمة أيضاً ، والله تبارك وتعالى قادر حكيم منزَّه عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله ، فلا يصدر عنه سبحانه إلا الكمال ، ولا تكون أفعاله إلا مطابقة لكمال الحكمة .

وقد سبق أن عرضنا دفع القرآن لهذا التوهم ، واستشهدنا بعدة نصوص قرآنية .

منها قول الله تعالى في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول):

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}

ونصوص أخرى نفى الله فيها عن نفسه أن يكون قد خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، أو خلقها على سبيل اللهو واللعب ، بل خلقها لحكمة ، وهذه الحكمة تقتضي مسؤولية الإنسان ومن على شاكلته ، والمسؤولية تستلزم الجزاء بالثواب وبالعقاب ، وظروف الجزاء الكامل غير موجودة في هذه الحياة الدنيا ، فلا بد من حياة أخرى يكون فيها هذا الجزاء .

ولا ننسى أن هذا التوهم قد ورد في مقالات منكري الحياة الآخرة ، وقد حكى الله مقالتهم التي تنم عن هذا التوهم من توهماتهم ، فقال تعالى في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول):

{إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا ٱلأُوْلَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}

وحكاها أيضاً في نصوص أخرى سبق الاستشهاد بها .

*التوهم السادس :

توهم المنكرين عدم إمكان تلقي الرسل الأخبار عن الله تعالى ، وعدم معرفتهم شيئاً من الغيب .

وقد عرض الله مقالة منكري الحياة الأخرى المشتملة على هذا التوهم من توهماتهم ، فقال تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):

{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ}

وكان مطلبهم أن ينزل الله ملائكة يبلغونهم الأخبار عنه ، أو يرون الله ويخاطبهم خطاباً مباشراً ، وقد ذكر الله مطلبهم هذا بقوله تعالى في سورة (الفرقان/25 مصحف/42 نزول):

{وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً}

والرد على أصحاب هذا التوهم يأتي ببساطة ، ويتلخص بأن وعد الله بالدار الآخرة والحياة بعد الموت جاء على ألسنة الرسل المؤيدين بالمعجزات الباهرات ، والله سبحانه لا يؤيد بمعجزاته من يكذب عليه ، وبأن الله يستحيل عليه – سبحانه – الكذب في الأخبار ، وقد أخبرنا في كتابه المنزل بذلك .

ولا تعدو مناقشة هؤلاء المناقشة حول الرسل والكتب واستحالة الكذب على الله تعالى ، وأن لله أن يصطفي من يشاء من عباده ، لتبليغ رسالاته للناس ، وأن يتخذ ما يشاء من وسائل لإعلام رسله برسالاتهم ، وإعطائهم ما يكون حجة لهم أمام الناس ، حتى يصدقوهم ويثقوا بأخبارهم .

هذا إحصاء توهمات منكري الحياة الآخرة ، وما فيها من جزاء بالثواب وبالعقاب .

وبعد إسقاط هذه التوهمات ودفعها ، وبيان أنها لا تصلح بحال من الأحوال لأن تكون مستنداً لرفض الإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء ، من قبل المعترفين بوجود الخالق العظيم لهذا الكون ، وبعد هذا الحصار الفكري للمنكرين حصاراً تاماً ، لا يبقى لهم مخرج إلا طريق الإيمان والتسليم ، إذا كانوا حريصين على احترام عقولهم ، وحذرين من عاقبة إنكارهم . أما إذا لم يكن لديهم هذا الحرص وهذا الحذر فباستطاعتهم أن يظلوا جاحدين بوقاحة ، ومنكرين بعناد لا مبرر له ، ومورطين أنفسهم بكبرهم في إصرار من ورائه عذاب شديد ، وشقاء لا نهاية له ، ثم إنهم لا يظفرون بأي كسب مادي أو نفسي لحياتهم الدنيا من جراء هذا الإنكار ، إلا أوهام الاستكبار والعناد ، والرغبة بالانطلاق في الجرائم والآثام ، دون أن ت تحرك قلوبهم بالخوف من مغبة ما يفعلون .

ولقد كشف الله عن هذه الدوافع التي تدفع المنكرين إلى التكذيب بالحياة الأخرى .

أما الكبر الذي جعل قلوبهم تنكر ، فنجده في قول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول):

{إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}

وأما الرغبة بالانطلاق في الجرائم والآثام ، فنجده في قول الله تعالى في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول):

{بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ}

والفجور: هو التدفق الوقح إلى فعل الشرور والآثام والجرائم ، دون رادع ، أو ضابط من دين أو ضمير .

[1] تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن ، وهي تعطي صورة فوتوغرافية للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية ،غير أن هذه الآلات التي تم اختراعها حتى الآن لا تستطيع تصوير الموجات الحرارية إلا خلال ساعات قليلة من وقوع الحادث ، أما الموجات القديمة فلا تستطيع تصويرها لضعفها . وتستعمل في هذه الآلات (أشعة انفرارد) التي تصور في الظلام والضوء على حد سواء ، ولقد بدأ العلماء في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية استغلال هذا النوع من الآلات في تحقيقاتهم ، وذات ليلة حلَّقت طائرة مجهولة في سماء نيويورك ، فصوروا الموجات الحرارية لفضاء نيويورك بهذا النوع من الآلات ، وأدى ذلك إلى معرفة طراز الطائرة ونوعها ، وقد أطلق على هذه الآلة اسم (آلة تصوير الحرارة).

[من كتاب: الإسلام يتحدى ، ص132]

مع العظم واستناده إلى أقوال (برتراند رسل)

بعد أن عرض الناقد (د. العظم) أقوال (برتراند رسل) التي أنكر فيها الحياة الأخرى ووجود الله تبارك وتعالى ، وعرض فيها نظرة الماديين الملحدين إلى الكون والحياة والإنسان ، والتي سبق أن نقضناها وكشفنا زيفها فكرياً وعلمياً ، قال (د. العظم) بأسلوبه التزييفي في الصفحة (27) :

"لنقارن بين هذه النظرية العلمية المجردة القاسية الباردة ، وبين القصة الدينية الإسلامية الجميلة المريحة الدافئة التي تعودنا عليها . نجد أن الغيبيات والملائكة والصلوات والمعجزات والجن تؤلف جزءاً لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وطبيعته ، كذلك الأمر بالنسبة لتاريخ الإنسان ومصيره".

هذا كلامه حرفياً ، ولست أدري كيف يسمح لنفسه هذا الإنسان ومن هو على شاكلته من الملحدين أن يبلغوا هذا المستوى التافه السخيف من التدجيل والتزييف ، الذي لا يقبله صغار المثقفين ، فضلاً عن الذين أخذوا من جوانب المعرفة قدراً مناسباً ، وعرفوا مداخل الزيف .

إن ما أسماه بالنظرية العلمية المجردة القاسية الباردة ،قد عرفنا بالمناقشات العلمية التي أوردناها فيما سبق أنها فرضيات احتمالية صاغها الملحدون باسم العلم ، وليس لها براهين علمية مقبولة ، ثم تلقفها المجرمون في الأرض وأخذوا يروِّجون لها ، ويلبسونها أثواب الحقائق العلمية ، ويعطونها من قوة التثبيت ما لا تملك شيئاً منها .

فكونها نظرية دعوى باطلة ، لأنها فرضيات احتمالية لم تدعها أدلة تجعلها في مستوى النظريات .

وكونها علمية هي أيضاً دعوى باطلة ، لأن الفرضيات ظنون ضعيفة لا يصح تسميتها علماً ، لا سيما إذا كان يوجد ما يخالفها مما تدعمه الأدلة دعماً أقوى من دعمها .

وكونها مجردة قاسية باردة لا أجد له تفسيراً واقعياً إلا أنها مجردة عن المنطق السليم ، ومجردة عن أية غاية كريمة ، وقاسية على النفوس قسوة الباطل حينما يبهت الحق بتزييفه ، وباردة برود الموت الذي لا يستطيع أن يحيا .

وأدهى من ذلك وأمر ما نجده من خلط عجيب لا يفعله إلا وقح شديد الوقاحة ، أو جاهل بالدين شديد الجهل ، وذلك إذ يزعم : "أن الغيبيات والملائكة والصلوات والمعجزات والجن تؤلف جزءاً لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وطبيعته ، كذلك الأمر بالنسبة لتاريخ الإنسان ومصيره".

فهل يجد أحد في الدين أن الصلوات كان لها أثر في نشأة الكون وطبيعته؟

هل يجد أحد في الدين أن الجن جزء لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وخلقه في عقيدة المسلمين؟ هل ساهم الجن في نشأة الكون وخلقه؟

هل يقول مثل هذا أحد من جهلة المسلمين فضلاً عن علمائهم؟

إن الدين يقرر أن الكون قد نشأ بخلق الله له ، ضمن نظام الأسباب والمسببات ، التي إذا اكتشف الباحثون شيئاً منها سمَّوها قوانين طبيعية .

فما هذا الخلط العجيب المفترى على الدين؟! ما هذا الخلط العجيب الذي لا نجد له مثيلاً إلا في أوكار الحشاشين ، أو في مستشفى المجانين؟ أو في أقوال المهرجين؟!

قد يكون عذره أنه لم يقرأ إلا كتب الماركسيين ، ودسائس اليهود وأجرائهم ، ولم يسمع إلا أقوال هؤلاء وأولئك في التهكم على الدين ، فظنها فعلاً مفاهيم إسلامية ، فحملها حملاً ببغاوياً وكتبها في مقالاته مقابل أجر معلوم ، دون أن يرجع إلى المصادر الإسلامية ويحقق فيها .

ولكن هل هذه طريقة باحث علمي أكاديمي يكتب نقداً وينشره بين جماهير المثقفين ، وهو بهذا المستوى الذي لا يليق بصغار أبناء المدارس ، فضلاً عن الذين تضعهم الأوراق المختومة بين كبار الدارسين؟!

أو لعله نظر من بعيد فرأى أن المسلمين يصلون لله خالق الكون وفاطره ، ويعتقدون بأنه يوجد مخلوقات أخرى غيرهم خلقهم الله كما خلق البشر ، إلا أنهم مزودون بخصائص وصفات ليس لدى البشر نظيرها ، فمن هذه المخلوقات الملائكة ، ومنها الجن . والمسلمون يعتقدون بها تصديقاً لخبر الله ، دون أن يعتقدوا بأن لها مشاركة في تعليل نشأة الكون وطبيعته ، وإنما لها تاريخ فيه كما للإنسان فيه تاريخ ، ولها وظائف فيه ، كما للإنسان فيه وظائف ، ثم بنى (العظم) على نظرته هذه التي نظرها من بعيد إلى المسلمين وعقائدهم ، فزعم أن كل هذه الأمور جزء لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وطبيعته وتاريخ الإنسان ومصيره .

إن مثل (د. العظم) في صنيعه هذا كمثل من يراقب مطبخ الجيش المحارب من بعيد ، فيرى فيه الكوسا والباذنجان وأكياس البصل وأواني الأطعمة المحفوظة وأدوات الطبخ وأسياخ شي اللحم ، فينسى وظائف هذه الأشياء فيقول : إن هذا الجيش المحارب يستخدم في حربه (الكوسا والباذنجان والبصل وعلب الطماطم) ويعدد ما شاهد في مطبخ الجيش ، ثم يقول : إن هذه الأشياء تمثل عند عدوناً جزءاً لا يتجزأ من القيادة العامة للجيش .

كان باستطاعته ما دام قد وصل إلى هذا الحد من السخافة الفكرية النقدية أن يضيف أشياء كثيرة لا حصر لها من الدين ، ويجعلها جزءاً لا يتجزأ من التعليل الديني لنشأة الكون وطبيعته وتاريخ الإنسان ومصيره ، فله أن يضيف مع الصلوات التي ذكرها الزكاة والصوم والحج وتحريم الربا وتحريم الخمر والميسر ، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل ، وتحريم الغش ، وتحريم العدوان والظلم وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأن يضيف مع الملائكة والجن جميع الحيوانات والنباتات التي خلقها الله ، والجبال والأوديان والأنهار والسحاب والليل والنهار والسماء والأرض ، فكلها مذكورة فعلاً في القرآن ، ولكن لكل منها مناسبة ، ولكل منها موقعاً ، ولا علاقة لها بتعليل نشأة الكون وطبيعته ، وإنما هي أجزاء موجودة في الكون تحتاج هي إلى تعليل ، وليست جزءاً من التعليل .

فيا لهذا من مغالطة متهافتة جداً ، تكشف لأصغر طلاب المدارس زيف كاتبها ، إذا كان لديه ولو قدر يسير من المعرفة الدينية .



» تاريخ النشر: 26-11-2009
» تاريخ الحفظ:
» شبكة ضد الإلحاد Anti Atheism
.:: http://www.anti-el7ad.com/site ::.