وصف الكافرين بأنهم كالأنعام بل هم أضل

وصف الكافرين بأنهم كالأنعام بل هم أضل

من كتاب :

      صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

      تأليف

      عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

 

 

          لقد عطل الكافرون بالله ما وهبهم الله من عقل ، وما منحهم من وسائل استنباط واستنتاج ، فوقفوا بها عند حدود ظواهر المادة وأسبابها القريبة ولم يؤمنوا بالحقيقة الكبرى التي تدل هذه الظواهر عليها ، كما أنهم لم يتسجيبوا لمشاعرهم الفطرية نحو هذه الحقيقة الكبرى .

 

          وبما أنهم عطلوا ما وهبهم الله عما يجب عليهم أن يستعملوه فيه ، كانوا هم وفاقد هذه المواهب سواء بحكم النتيجة .

 

          لقد خلق الله فيهم عقولهم ووسائل إدراكهم لينظروا في الكون ويدرسوا خصائصه ، وليستدلوا منه على خالقه ومبدعه ومدبر أمره ، لكنهم نظروا في الكون فوقفوا عند حدود الظواهر وأسبابها القريبة التي لهم بها مصلحة في حياتهم الدنيا ، ثم أنكروا خالقه ومبدعه ومدبر أمره ، فكانوا بالنسبة لهذا القطاع الفكري كالأنعام ، بل هم لدى التحقيق أسوأ حالاً وأضل سبيلاً ، لأن فاقد الشيء أصلاً وهو لا يملك وسيلة لتحصيله واكتسابه معذور بفطرته . فالحيوان الذي لا عقل عنده ولا بصيرة تهديه معذور بضلالته إذا ضل ، وربما تضل غريزته عن الإمعان في الضلال . بخلاف الإنسان الذي يعطل عقله عما خلق من أجله فهو غير معذور ، والمسؤولية تلاحقه على مقدار ما وهبه الله من قوة إدراك معطلة ، ومؤاخذاته تكون أشد ، ومسؤولياته تكون أعظم حينما يسخِّر عقله ومواهب فهمه وإدراكه في خدمة أهواء نفسه الجانحة الجامحة ، وعندئذٍ ينطلق في ميادين الشر والفساد بذكاء وحيلة ، ولا يقف عند حدود محدودة ، فلا لجام من غريزته ، ولا ضابط من عقله ، ومواهبه الذهنية مسخرة لأهواء نفسه في الضلال والفساد والشر ، فهو بذلك أضل سبيلاً من الأنعام ، ويصح أن يحكم عليه بأنه شر الدواب عند الله .

 

          فإذا ذكِّر بالله والخير وفعل الصالحات لم يسمع من ذلك شيئاً ، لأن قلبه مقفل بأقفال الأهواء والشهوات ، مطبوع عليه ولو سمع بأذنيه الكلام المذكِّر بالله فإن قلبه وفكره في حجاب غليظ عن سماع مضمونه .

 

          وإذا عرضت عليه آيات الله البينات في نفسه وفي الكون من حوله لم يرَ منها شيئاً ، لأن بصيرته محجوبة بحجب الأهواء والشهوات ومصالح الدنيا ولذاتها ، فلا يرى من الآيات إلا ظواهرها الدنيوية ، أما دلالاتها الحقيقية الربانية فلا يرى منها شيئاً ، وتظل بصيرته في عمى عنها ، بسبب كفره بربه وبجزائه واليوم الآخر ، وبسبب انحصار كل تصوراته في حدود الحياة الدنيا ومتعها وزينتها وهمومها وأحزانها .

 

          فمن أجل ذلك صحَّ وصف هذا الفريق من الناس بأنه أصم أبكم أعمى ، وبأنه لا يعقل .

          فما قيمة سمع لا يؤدي وظيفته الأساسية؟ وما قيمة بصر لا يؤدي وظيفته الأساسية؟ وما قيمة فكر لا يهدي صاحبه إلى رشده وسعادته؟ إن وجودها وعدمها سواء في حكم النتيجة العاجلة ، ووجودها شر وبلاء على صاحبها في حكم النتيجة الآجلة والعاقبة الوخيمة يوم الجزاء الأكبر .

 

          وقد تظاهرت النصوص القرآنية في الدلالة على هذه الحقيقة ، منها قول الله تعالى في سورة (الفرقان/25 مصحف/42 نزول):

          {أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}

 

          فالكافرون بالله الذين اتخذوا أهواءهم آلهتهم لا يسمعون إلى نصائح الهداية ، ولا يعقلون نفوسهم عن مواقع الضلالة ، وما هم في حياتهم إلا كالأنعام يأكلون كما تأكل الأنعام ، ويتمتعون كما تتمتع الأنعام ، بل هم أضل منها في الحياة سبيلاً ، لأن الأنعام تلجمها غرائزها ، أما الكافرون من الناس فليس لديهم ما يلجمهم عن الشر الكبير والفساد العريض .

 

          ومنها قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول):

          {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}

 

          ومنها قوله تعالى في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول):

          {رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }

 

          فهم في تمتعهم في الحياة كما تتمتع الأنعام تلهيهم آمالهم ، حتى إذا جاءت آجالهم قطعت كل آمالهم .

 

          ومن البديع أن الله تبارك وتعالى قد أثبت لهم قلوباً وأعيناً وآذاناً ، ولكنه أثبت أيضاً أنهم لا يفقهون الحق بقلوبهم ، ولا يبصرون آيات الله بأعينهم ، ولا يسمعون أقوال الهدى بآذانهم ، لذلك فهم كالأنعام بل هم أضل وهذه الغشاوات على مداركهم إنما تراكبت عليهم بسبب غفلتهم وانشغالهم بمتاع الحياة الدنيا ، قال الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول):

          {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ}

 

          ومن أجل ذلك كانوا شر الدواب عند الله ، وهذا ما أعلنه الله بقوله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

          {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَاب عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }

 

          فبين الله أن سبب كونهم شر الدواب عند الله أنهم صم عن سماع الهدى ، بكم عن قول الخير والاعتراف بالحق ، لا يعقلون نفوسهم عن أهوائها الجانحة ، وبذلك كانوا كافرين بالله واليوم الآخر ، ولو علم الله فيهم خيراً من إيمان أو إرادة للخير لأزال الغشاوات التي تراكبت عليهم فأسمعهم ، ولكن لو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ، فلم ينتفعوا لأنهم هم السبب في هذه الغشاوات الحاجبة لهم .

 

          وأوضح الله في آية أخرى أن شر الدواب عند الله الذين كفروا ، فدل ذلك على أنهم هم الصم البكم الذين لا يعقلون ، فقال تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

          {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.

 

          ووصف الله الكافرين في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) بأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون ، فقال تعالى :

          {وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}

 

          ووصف المنافقين بمثل ذلك فقال فيها أيضاً:

          {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}

 

 

 

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة