عقوبات الكافرين المعجلة والمؤجلة

عقوبات الكافرين المعجلة والمؤجلة

من كتاب :

      صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

      تأليف

      عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

 

 

          للكافرين عقوبات ربانية يعاقبهم الله بها جزاء كفرهم ، قسم منها معجل يجري ضمن ظروف هذه الحياة الدنيا ، وضمن سننها ومقاديرها ، وقسم آخر مؤجل إلى مابعد ظروف هذه الحياة الدنيا .

 

( أ ) العقوبات المعجلة :

 

          أول ما يخسره الكافر بكفره معونة الله التي يمد بها أولياءه ، ثم يصيبه مقت من الله يضيق به صدره ، وتتكدر به نفسه ، فلا يكون في داخل نفسه منشرحاً ولا مسروراً ، لأنه يكون محروماً من الرضا بالمقادير ، وهذا يجعله فريسة للحزن والهم ، فهو دائماً حزين على ما فاته من خير ، مهموم لما يطمع بالحصول عليه ، وفي ذلك عذاب له يُقضُّ مضجعه وينغص عليه حياته ، ويحرِمه من التمتع الصحيح بما يصيب من لذَّات ، حتى إذا ضاقت به الحياة ، وقلت عليه نسمات آمالها ، وكثرت عليه خوانق أكدارها وآلامها ، وصار صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ، أو كأنما يهوي منها فيتمزق فتخطفه الطير من كل جانب ، عندئذٍ يحاول أن يفر من الحياة ، بالخمر والقمار ، أو بالمخدرات أو بالانتحار .

 

          يضاف إلى ذلك أنواع الخيبة التي تُمنى بها أعمالهم وتدبيراتهم التي يواجهون بها أولياء الله الصادقين العاملين بما أمرهم الله ، وصور الخذلان والهزيمة إذ ينصر الله المؤمنين الصادقين عليهم ، وأنواع العقوبات المادية والمهلكات الجسدية والنفسية التي ينزلها الله بهم ، ثم ما ينال بعضهم من تدمير شامل ،كما حصل لبعض الأمم التي كفرت برسل ربها وكتبه واليوم الآخر وأكثرت في الأرض الفساد .

 

          والنصوص القرآني التي بينت عقوباتهم المعجلة كثيرة . فمنها ما يبيِّن واقع حالهم النفسي القلق المضطرب المتمزق ، المشحون بالهموم والأكدار . ومنها ما يشتمل على وعيد الكافرين بأنواع العقوبات المعجلة ، وهذا الوعيد قد يكون وعيداً جازماً مقطوعاً به ، وقد يكون تهديداً صريحاً ، وقد يكون تلويحاً وتعريضاً بالتهديد ، وألوان التربية القرآنية في هذا كثيرة ومتنوعة . ومنها ما يشتمل على وعد المؤمنين الصادقين بالظفر والنصر والتأييد ضد أعدائهم ، وهذا يتضمن وعيداً للكافرين بأن الله سيخذلهم ويذلهم وينصر المؤمنين عليهم . ومنها ما يشتمل على بيان قصص ووقائع تاريخية أنزل الله فيها بالكافرين عقوباتهم المعجلة في الدنيا ، وفي عرض هذه القصص بيان لسنة الله في عباده حتى يعتبر بها الذين كفروا إن كانوا من الذين يعتبرون ويتعِّظون .

 

          والعنوان الشامل لعقوبات الكافرين معلن في قول الله تعالى : {فمن كفر فعليه كفره}، أي: فكفره يكون عليه ضرراً وأذى ، ولا يكون لمصلحته بحال من الأحوال ، لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة ، وحينما يتصور أن كفره سيجلب له فائدة أو مصلحة أو خيراً عاجلاً فإن كفره لا يزيده إلا خساراً ، كل هذا نجده موضحاً في قول الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول):

          {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً}

 

          والمقت الذي ينزل عليهم يملأ صدورهم ضيقاً وحرجاً ، وهماً وحزناً ، والخسارة يلاحقهم حيثما توجهوا ، كل ذلك بسبب كفرهم بما يجب أن يؤمنوا به مما أنزل الله على عباده.

 

          * العقوبة بالضيق والحرج في صدورهم:

          جاء في البيانات القرآنية أن الله يعاقب الكافرين ضمن سننه في الحياة الدنيا بضيق وحرج وصدورهم ، فقال تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):

          {فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}

 

          فالذين لا يؤمنون يعاقبهم الله بهذا الرجس النفسي ، وهو ضيق وحرج في صدورهم ، وهذه نتيجة طبيعة لكفرهم ، وهذه العقوبة تأتيهم ضمن سنن الله الكونية؟ فمن يرد الله أن يضله (أي: أن يحكم عليه بالضلال) بسبب كفره وعناده يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعَّد في السماء .

 

          وبمقدار ضعف التصورات الإيمانية لدى المؤمنين ضعفاء الإيمان يأتيهم نصيب من هذا الضيق والحرج في الصدور .

 

          * العقوبة بالتمزق النفسي والقلق :

          وجاء في البيانات القرآنية أن حالة من التمزق النفسي تصيب الكافرين بسبب كفرهم وإشراكهم بالله ما لم ينزِّل به سلطاناً . فقال الله تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول):

          { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}

 

          فحالة التمزق والضياع والانهيار والقلق التي تصيب الإنسان في كيانه الداخلي هي من العقوبات النفسية التي يعاقب الله بها الكافرين ضمن سننه الكونية ، لأن الكفر بالله أو الإشراك به مما يسبب هذه النتائج في داخل النفس ضمن قوانين الأسباب والمسببات .

 

          * العقوبة بالخذلان والهزيمة أمام جند الله:

          ومن العقوبات المعجلة للكافرين خذلانهم وهزيمتهم أمام جند الله المؤمنين الصادقين القائمين بما أوجب الله عليهم ، ولو كانوا أقل منهم عدة وعدداً ، وإفساد تدبيراتهم ومخططاته ومكايدهم التي يدبرونها لمحاربة جند الله وإطفاء نور الله، وبذلك تتحقق حكمة الله ووعه في نصر أوليائه وخذل أعدائه .

 

          قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

          { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ }

 

          ففي هذا النص نلاحظ أن الغاية من خذلهم ونصر المؤمنين عليهم إضعاف قوتهم في الأرض بقطع طرف منهم ، أو كبتهم ، أي : إغاظتهم وإحزانهم ، ليكون ذلك برهاناً على أن الله ولي الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم . والعاقل متى أدرك دلالة هذا البرهان كان ذلك محرضاً له على الإيمان .

 

          ولذلك قال الله لرسوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

          {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ}

 

          ووسائل خذلهم ونصر المؤمنين الصادقين عليهم كثيرة مختلفة ، منها إلقاء الرعب في قلوبهم . ومنها توهين كيدهم ورد مكايدهم إليهم وجعلها في نحورهم . ومنها إمداد المؤمنين ضدهم بالقوة المعنوية العالية ، وبالملائكة وبالأحداث الطبيعية ، كالرياح والأمطار ومواقع الأرض وغير ذلك .

 

          أما إلقاء الرعب في قلوبهم فيدل عليه قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

          {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّالِمِينَ}

 

          فإلقاء الرعب في قلوبهم قد كان بسبب كفرهم وإشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً .

 

          وأما توهين كيدهم فيدل عليه قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

          {ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ}

 

          وطبيعي أن يولي الكافرون الأدبار حينما يقذف الله في قلوبهم الرعب ويوهن كيدهم ، ولذلك خاطب الله الذين آمنوا بقوله في سورة (الفتح/48 مصحف/111 نزول):

          {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}

 

          وقد حذر الله الكافرين من عقوبة خذلهم ونصر المؤمنين عليهم ،بالتلويح مرة ، وبالتصريح أخرى ، وبالتطبيق العملي في معاركهم ضد المؤمنين الصادقين .

 

          فمن صور التلويح بالتهديد قول الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول):

          {لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ}

 

          فهم مهما بلغت قوتهم في الأرض لا يعجزن المؤمنين الصادقين القائمين بما أوجب عليهم ، لأن الله يمد أولياءه بمعونته ونصره ،ويخذل أعداءه وما النصر إلا من عند الله ، أما في الآخرة فمأوى الكافرين النارُ دار العذاب ، ولبئس هذا المصير مصيرهم .

 

          وقد جاءت هذه الآية طمأنةً للرسول والمؤمنين بوجهها الصريح ، واشتملت أيضاً على تلويح تهديدي للكافرين بموجب دلالتها المتعلقة بهم ، ولو لم يكن الخطاب فيها موجهاً بصراحة لهم ، لكن آية أخرى قد جاء فيها توجيه الخطاب للكافرين بأنهم غير معجزي الله ، فقال تعالى يخاطب المشركين في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):

          {وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ}

 

          وقال لهم أيضاً:

          {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

 

          وتحدث الله عن الكافرين عامة بمثل ذلك ، فقال تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

          {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}

 

          أي: لا يظنوا أنفسهم قد سبقوا المؤمنين بعددهم وعدتهم ، فإنهم لا يعجزون المؤمنين الصادقين ، لأن الله مع المؤمنين بمعونته وتأييده ونصره ، ولكن على المؤمنين أن يقوموا بما أوجب الله عليهم ، وأن يحققوا في أنفسهم الشروط التي يستحقون بها تأييد الله لهم ،ونصرهم على عدوهم ، ومن ذلك أن يعدّوا لأعدائهم ما يستطيعون من قوة ، ومن أجل ذلك أتبع الله الآية السابقة بقوله :

          {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}

 

          ومهما تكن مكايد الكافرين كثيرة وخطيرة وذكية فإن الله قد ضمن للمؤمنين توهين هذه المكايد ، وردها عليهم ، متى صدق المؤمنون وأخلصوا لله في جهادهم ، وبذلوا ما في وسعهم في سبيل الله وهذا الضمان نلاحظه في قول الله الذي ذكرناه قريباً من سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

          {ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ}

 

          وفي قول الله تعالى في سورة (الطور/52 مصحف/76 نزول):

          {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ}

 

          أي: فمكايدهم تعود عليهم ، ولا ينال المؤمنين الصادقين ضرها البالغ ، ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

          {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}

 

          فقد جاءت هذه الآية في معرض الحديث عن اليهود ، وهم أكثر الناس مكايد للمؤمنين ولسائر الناس .

 

          فما على المؤمنين الصادقين الملتزمين بأوامر الله إلا أن يواجهوا أعداء الله بثبات وصبر ، بعد أن يعدوا لهم ما يستطيعون من قوة ، وتكون نسبة عدوهم لا تزيد على ضعفهم .

 

          لقد كان التكليف أول الأمر يلزم المؤمنين بأن يقابلوا عشرة أضعافهم ، ثم خفف الله هذه النسبة إلى ضعف واحد ، نظراً إلى حالة الضعف النفسي الذي عليه الناس مهما بلغ إيمانهم ، إذ لا يرتقي شعورهم الجماعي العام إلى مستوى النسبة العظمى ، ولو بلغ شعورهم الجماعي إلى هذا المستوى لكتب الله لهم النصر على عدوهم ، وإن كانت قوته عشرة أضعاف قوتهم أو أكثر ، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

          {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن منكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ منكُمْ مئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً منَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}

 

          أي: ليس لهم غاية يفقهونها فترفع قواهم المعنوية على القتال ، ولا أمل لهم فيما بعد الحياة الدنيا ، لذلك فهم شديدو الحرص على الحياة ، وهذا هو مولد الجبن في قلوبهم .

 

          وعقب ذلك جاء التخفيف في هذا المستوى من التكليف الإلزامي ، فقال تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

          {ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ}

 

          ففي هذا وعد من الله بأن ينصر المؤمنين الصادقين الصابرين على عدوهم ، ولو كان عدده ضعف عددهم ، على أنهم لو وثقوا بالله حق الثقة ، وصبروا وصدقوا لنصرهم على عدوهم ولو كان عدده ضعف عددهم عشر مرات ، فالوعد الأول لم ينقطع ، ولكن التكليف بالمواجهة هو الذي جاء فيه التخفيف ، ولذلك جاءت الآية مصدرة بقول الله تعالى : {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً}.

 

          والوقائع والأحداث التاريخية قد أيدت هذه الحقيقة ، فالله قد نصر ر سله بالحق على الذين كفروا وظلموا من أقوامهم ، ونصر الذين آمنوا وصبروا وصدقوا واستقاموا في كل وقائعهم ضد الذين كفروا ، ولم تتحول رياح النصر عن المؤمنين إلا بذنوب قد ارتكبوها ،وقد حقق الله بنصره لرسله وللمؤمنين الصابرين الصادقين سننه التي وضعها ، وحقق وعده الذي وعد به أولياءه ، والذي أعلنه بقوله تعالى في سورة (غافر/40 مصحف/60 نزول):

          {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ}

 

          وبنظرة تفصيلية نلاحظ أن الله تبارك وتعالى قد نصر نوحاً على قومه فأغرقهم وأنجاه والذين آمنوا معه ، ونصر هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً على أقوامهم ، ونصر موسى على فرعون وملئه وجنوده ، ونصر داود وسليمان ، ونصر عيسى فأنجاه من قومه ، ونصر محمداً والمؤمنين معه وتوج لهم جهادهم بالفتح المبين ، ونصر المجاهدين المسلمين من بعده ، ففتح لهم أبواب ممالك الأرض ، وما توقف عنهم النصر إلا حينما عصوا في الواجبات والشروط التي فرضها الله عليهم ، والتي كانوا يستحقون بها إمداد الله لهم بمعونته ونصره .

 

          ولنأخذ حياة الرسول محمد لنرى كيف نصره الله في كل مواقفه على أعدائه ، وكيف خذل الكافرين .

 

          لقد نصره الله يوم هاجر من مكة إلى المدينة ، بوسائل خفية غيبية ، وأخرى مشهودة ما كان الكافرون ليحسبوا حسابها ، وقد تحدث الله عن هذا النصر بقوله لأصحاب الرسول في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):

          {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

 

          وتحدث الله عن هذا النصر أيضاً بقوله لرسوله في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

          {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ}

 

          ثم نصر الله الرسول والمؤمنين في غزوة بدر الكبرى على الكافرين أعدائهم وأعداء الله ، وسورة الأنفال تدور حول أحداث هذه الموقعة العظيمة وما أظهر الله فيها من آيات نصرة لرسوله والمؤمنين معه ، رغم أنهم كانوا أقلة أذلة ، وقد امتنَّ الله عليهم بهذا النصر ، فقال تبارك وتعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

          {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ}

 

          أي فبعزته ينصر ، وبحكمته يقضي بنصره للمؤمنين الصابرين الصادقين على الكافرين المصرين المعاندين الصادين عن سبيل الله .

 

          وفي غزوة أحد نصر الله المؤمنين في أوائل الأمر ، ثم حول الله عنهم رياح النصر بسبب معصيتهم أوامر الرسول صلوات الله عليه .

 

          وفي غزوة حنين حين تحولت أول الأمر رياح النصر عن المسلمين بسبب اغترارهم بكثرتهم واعتمادهم على أنفسهم ، ثم نصرهم الله وأيد رسوله والمؤمنين الصادقين ، وأنزل جنوداً من عنده ، وخذل الذين كفروا ، وبين الله هذا بقوله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):

          {لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ}

 

          فأصاب الله المؤمنين يوم حنين بما أصابهم به أولاً ليؤدبهم ويربيهم حتى لا يغتروا بأنفسهم ، وحتى لا ينقطعوا عن الاعتماد على الله والثقة به والتوكل عليه ، ثم تدارك القلة الباقية منهم بنصره المبين ، ليثبت للمؤمنين أن النصر من عنده سبحانه ، يرفعه متى شاء ، ويضعه حيث شاء .

          وفي غزوة الخندق كان نصر الله للمؤنين برد الكافرين عن حصار المدينة ، وهم يعانون آلام غيظهم ، إذ لم ينالوا خيراً من حملتهم الظالمة الآثمة ، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/99 نزول):

          {وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}

 

          وفي غزوة بني قريظة كان نصر الله للمؤمنين بقذف الرعب في قلوب اليهود وإنزالهم من حصونهم ، واستسلامهم للقتل والأسر ، وقد بين الله هذا النصر بقوله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول):

          {وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.

 

          وفي  غزوة بني النضير كان نصر الله للمؤمنين بأن قذف الرعب في قلوب بني النضير من اليهود ، وتم إجلاؤهم عن المدينة ، ونصر الله رسوله والمؤمنين معه ، ونزل في أحداث هذه الواقعة التي تمت بنصر المؤمنين وخذل الكافرين سورة (الحشر/59 مصحف/101 نزول)، وفي هذه السورة يقول الله تعالى:

          {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم منَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ * وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ}

 

          وهكذا وضح لنا بالشواهد الواقعية كيف يعاقب الله الكفارين بأنواع من العقاب المعجل في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أكبر وأشق ، وهذا العقاب المعجل للكافرين ليس عقاباً كاملاً ، وإنما هو عقاب جزئي للتذكير والتربية والاعتبار ، وهو أيضاً بشرى للمؤمنين ومثوبة لهم .

 

          * العقوبة بالقوارع الجزئية:

          ومن العقوبات المادية المعجلة التي ينزلها الله بالذين كفروا وأصروا على كفرهم وعنادهم أنواع القوارع والمصائب التي تحل بهم ، وقد بين الله ذلك بقوله تعالى في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول):

          {وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ}

 

          ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى في سورة (السجدة/32 مصحف/75 نزول):

          {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ منَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكرَ بِآيَاتِ رَبهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ }

 

          والعذاب الأدنى هو العذاب المعجل في الدنيا والغرض منه رجاء إصلاحهم أو الاتعاظ بهم ، وقد يدخل في العذاب الأدنى عذاب ما بين الموت والبعث .

 

          * العقوبة بالإهلاك العام والتدمير الشامل:

          ويأتي في قمة أنواع العذاب المعجل للكافرين عقابهم بالإهلاك العام والتدمير الشامل ، لقمع بؤرة الشر التي لم تُجدِ فيها كل وسائل الإصلاح ، وليكون هذا العقاب عبرة لغيرهم ، حتى يرتدعوا عن كفرهم وطغيانهم وتماديهم في الفساد ، ولينصر الله بذلك رسله والمؤمنين .

 

          لما اشتد استهزاء الكافرين برسول الله خاطبه الله مطمئناً ومسلياً له بقوله في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول):

          {وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}

 

          فكان عقاب الله لهم بالإهلاك العام ، والعذاب الشامل .

 

          وقص الله علينا في القرآن طائفة من قصص إهلاك الأولين ، ليكون ذلك عبرة لأولي الأبصار ، وأوضح لنا أن إهلاكهم كان جزاء لهم بسبب كفرهم وتماديهم في الغي والفساد ، وانتصاراً لرسله الذين كذبوهم وسخروا منهم وكادوهم كيداً كبيراً.

 

          فمن أمثلة ذلك إهلاك الله أهل سبأ ، لقد كان إهلاكهم جزاء لهم بسبب كفرهم وبغيهم ، قال الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):

          {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}

 

          فهؤلاء السبئيون في القديم قد عاقبهم الله بالسيل العرم ، وجازاهم بسبب كفرهم العنيد الظالم ، بعد أن وسع عليهم في الرزق ، وعاملهم بعفوه وغفرانه (بلدة طيبة ورب غفور) لكنهم ما رعوا نعمة الله حق رعايتها ، فبدلهم الله بجنتيهم الطيبتين جنتين ذواتي أكل خمط ، ثم أهلكهم ومزقهم كل ممزق .

 

          وأوضح القرآن أن عقاب الكافرين يحمل غايتين :

          الغاية الأولى : الجزاء بالعقاب للكافرين .

          الغاية الثانية : الجزاء بالثواب للمؤمنين الصادقين .

 

          فمن ذلك ما قصه الله تعالى من قصة قوم نوح وإهلاكهم وإنقاذ نوح ومن آمن معه ، ليتعظ بها قوم محمد ، فقال تعالى في سورة (القمر/54 مصحف/37 نزول):

          {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ * فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}

 

          فعقاب قوم نوح وإنقاذ نوح بالمعجزة الربانية كان ذلك جزاء لنوح الذي كُفِر – أي : كفر به قومه وكذبوه – وهذا جزاء بالثواب ، وكان أيضاً جزاء بالعقاب للكافرين المكذبين ، إذ كانوا هم الطرف المعاقب المهلَك .

 

          ومن الملاحظ بوضوح أن ما عرضه الله في كتابه من قصص الأولين ، قد كان الغرض منه إيقاظ مشاعر الاعتبار والاتعاظ ، ولم يكن الغرض منه مجرد عرض قصص من القصص التاريخية ، مهما كانت المواقف الفنية المثيرة ظاهرة فيها ، ولذلك تبرز في القصة القرآنية الأحداث المشتملة على مواطن العظة والاعتبار ، ويأتي فيها لفت النظر إلى الاتعاظ والاعتبار ، في آخر عرض القصة أو في أوله أو في أثنائه .

 

          ففي النص السابق نلاحظ في آخره قول الله تعالى :{فهل من مدَّكر؟ فكيف كان عذابي ونذر؟}.

 

          ونلاحظ في القرآن تنبيهاً عاماً على الاعتبار بجميع ما أجراه الله في الأمم السابقة ، فمن ذلك قول الله تعالى يخاطب رسوله محمدا في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول):

          {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلزُّبُرِ وَبِٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }.

 

          ففي قوله تعالى : {فكيف كان نكير؟} توجيه ظاهر للاتعاظ والاعتبار بكل ما جرى للأمم السابقة من عقاب لهم على كفرهم وتكذيبهم .

 

          ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة (يوسف/12 مصحف/53 نزول):

          {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}

 

          ففي هذا النص تصريح بأن الغرض من عرض قصص الأولين أن تكون عبرة لأولي الألباب ، وهم أصحاب القلوب الواعية والأبصار المدركة .

 

          ومن هذا نلاحظ أن القرآن يعتمد – في ضمن ما يعتمد – على التربية بالقصة ، لما للقصة الواقعية من تأثير قوي في النفوس ، وتنبيه قوي على الاعتبار والادِّكار ، ومعلوم في الظواهر التاريخية أن تكرر النتائج للمقدمات دليل على ثبات السنةَّ الكونية ، فهي تدل عند ذوي العقول على أن للمستقبل حكم ما جرى في الماضي ، لذلك كان من الطبيعي الاستشهاد بأحداث الماضي دليلاً على ما يجري في المستقبل ، وباعتبار أن ذلك من سنن الله الثابتة .

 

          وذلك جعل الله أنبياء الأولين أدلة لأولي الألباب ، يحاسبون عليها ، ويلامون على الاستهانة بها ، وعدم الاعتبار والاتعاظ بما اشتملت عليه من مواطن عظة واعتبار ، وهذا ما نلاحظه في قول الله الموجه للذين كفروا بمحمد في سورة (التغابن/64 مصحف/108 نزول):

          {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَينَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }

 

          ففي هذا النص نلاحظ توجيه اللوم والتوبيخ لهم إذ لم يتعظوا ولم يعتبروا بأنباء الذين كفروا من قبل .

 

          وعلى هذا الأساس التوجيهي التربوي جاءت قصص القرآن .

 

 

تابع : عقوبات الكافرين المعجلة والمؤجلة

 

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة