عرض المقال :الغيب ومنطق العقل
  الصفحة الرئيسية » مـقـالات الموقـــع » الرد على شبهات حول الإسلام » الرد على الشبهات العقلانية للملاحدة

اسم المقال : الغيب ومنطق العقل
كاتب المقال: الحقيقة

الغيب ومنطق العقل

 

من كتاب : صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة

 

حتى العظم

 

 تأليف

 

عبد الرحمن حسن حبنّكة الميداني

 

      حينما يناقش علماء النصارى في مسألة التثليث أو غيرها من المسائل التي يرفضها منطق العقل ، يدافعون بأن الدين لا يخضع لمنطق العقل ، إذ هو فوق مستوى العقل البشري ، ويجب التسليم بكل ما جاء فيه ، ولو كان العقل يرفضه رفضاً باتاً لاستحالته .

 

      وظل رؤساء الدين عندهم يهيمنون على أتباعهم بهذه الحجة ، حتى قامت الثورة العلمية المادية الحديثة ، ففجرت جوانب البحث العلمي في كل مجال من المجالات العلمية التي يستطيع الإنسان أن يتوصل إليها ، وأيقظت الفكر النصراني من سباته الذي لازمه قرابة خمسة عشر قرناً ، ثم امتد أثره إلى الأمم الأخرى ، ومع هذه اليقظة العلمية أخذ المثقفون منهم يفكرون في قضية التثليث ، وفي قضايا مشابهة ، يقال عنها: إنها من أمور الدين التي هي فوق مستوى العقل ، ويجب التسليم بها ، ولو كان العقل يرفضها قطعياً ويرى أنها مستحيلة ، فلم تهضمها عقولهم ، وبدأوا يتشككون في صحة ديانتهم من أساسها ، وقام الصراع المعروف بين قوتين :

 

      قوة تقليدية لها مؤسسات ورياسات دينية وأنظمة حكم تدعمها .

 

      وقوة أخرى أخذت سبيلها إلى النهوض المادي عن طريق البحث العلمي ، ومناقشة الأمور بالعقل والمنطق وسائر وسائل البحث الإنساني للوصول إلى المعرفة الصحيحة .

 

      وانتهت معركة الصراع بمحاصرة الديانة النصرانية وحجزها داخل جدران الكنيسة ، ثم أخذت الأجيال النصرانية سبيلها إلى إنكار ديانتهم ، والشك في صحتها من أساسها ، وعاشت في فراغ فكري وروحي خطير ، وفي هذا الجو النفسي المستعد لملئه بشيء آخر نشط دعاة الإلحاد الماديون يبثون أفكارهم الإلحادية ، واستغلت اليهودية العالمية هذا الواقع أو ساهمت في التدبير له ، وشحنته بما يلزم من الآراء الإلحادية والنظريات الخادمة لقضية الإلحاد ، فأخذ الإلحاد ينتشر في أوروبا انتشار النار في الهشيم ، وتبعتها شعوب أخرى ، ودار دولاب الانهيار في الغرب والشرق متسارعاً بشكل خطير ، مؤذن بدمار قريب تتحقق فيه سنة الله في الأمم .

 

      والمسؤول عن كل ذلك أو معظمه العلماء بالنصرانية ورؤساء الكنيسة ، لأنهم لم يصححوا العقائد المزيفة ، الدخيلة على أصول ديانتهم ، والتي كان اليهود من قبل قد عملوا على إدخالها فيها لإفساد أصول النصرانية ، ثم لم يعمل هؤلاء الرؤساء الدينيون لإقناع شبابهم المثقف بالحجة والبرهان .

 

      وهنا يتساءل الشاب المسلم المثقف فيقول : ما هو موقف الإسلام من العقل ، ومما تثبته وسائل المعرفة الإنسانية تجاه ما جاء به الدين ؟

 

      ومن واجبنا أمام هذا التساؤل أن نحرر الجواب تحريراً شاملاً شافياً:

 

      أولاً: من نعمة الله علينا في الإسلام أن أصوله وأركانه قد سَلِمت من التغيير والتحريف ، فلم يصبها شيءٌ ، مما أصاب أصول الأديان الأخرى من ذلك ، فليس أمامنا مشكلة دين محرف مخالف للحقيقة ، أو مخالف لمنطق فليس أمامنا مشكلة دين محرف مخالف للحقيقة ، أو مخالف لمنطق العقل والواقع ، حتى نلفّق لدعمه الحجج الخرافية ، على أن الإسلام لا يرضى ولا يقبل بحالٍ من الأحوال من المؤمنين به أن يلفقوا الحجج الباطلة ، أو يختلقوا الشهادات الكاذبات ، ولو كان ذلك لدعم الحق الذي جاء به ، لأن قبول هذا الأسلوب سيقضي على الأدلة والحجج الحقة الصادقة ، وسيقضي بالتالي على الدين من أساسه ، إذ قبل بمبدأ التأييد بالباطل ، فالحق لا يقبل التأييد والمناصرة إلا بالحق .

 

      ثانياً: الإسلام دين الحق ، والحق لا يمكن أن تقوم الأدلة الصحيحة على إبطاله بحال من الأحوال . ولكن قد تقوم الأدلة الباطلة لإبطاله في تصورات المغرورين المخدوعين صغار العقول ، على أن هذه الأدلة الباطلة لا تلبث حتى تنهار ، وحسبها ضعفاً وقلة شأن أنها أدلة باطلة في أصلها ، مهما طليت بالأصباغ وأنواع الزينة من زخرف القول .

 

      ثالثاً: تنقسم المعارف الدينية إلى ثلاثة أقسام :

 

القسم الأول :

 

      تكاليف عملية نفسية وجسدية يطالب الناس بها . ومن نعمة الله علينا في الإسلام أنها مشتملة على ما يصلح أوضاع الناس وأحوالهم ، ويرتقي بهم إلى أرفع درجة حضارية إنسانية ، سواءٌ أكانت تكاليف عبادات ، أو تكاليف أخلاق ، أو تكاليف معاملات ، أو تكاليف أخرى تدفع الناس إلى الارتقاء المجيد في سلَّم الحضارة الإنسانية المثلى ، الخالية من عيوب الانهيار الأخلاقي والنفسي والسلوكي .

 

      وبرهان هذا وتفصيله يتطلب شرحاً طويلاً ، عرضت طائفة مناسبة منه في كتابي : "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" .

 

      على أن الأصل في التكاليف أنها ابتلاء للإرادة ، والامتحان لا يشترط فيه بشكل لازم أن يكون موافقاً لمصالح الواقعين تحت الامتحان . لكن فضل الله كان عظيماً ، إذ كان امتحانه لنا في تكاليف تضمن أحسن المصالح لنا ، وأوفى المنافع ، وأكثر الاحتمالات دفعاً للأضرار والمخاطر ، وأسلمها حلاً للمشكلات .

 

القسم الثاني :

 

      أنبا عن واقع كوني باستطاعة الوسائل الإنسانية أن تصل إلى معرفتها على ما هي عليه في الواقع ، ولو بعد حين  .

 

      وما جاء في الإسلام من هذا القسم لا يمكن أن يكون مخالفاً للواقع والحقيقة ، إلا ضمن احتمالين لا ثالث لهما :

 

      الأول : أن يكون فهم النص الإسلامي من قبل بعض المجتهدين أو المؤولين فهماً خاطئاً .

 

      الثاني : أن يكون النص المنسوب إلى الإسلام نصاً غير صحيح النسبة ، كأن يكون خبراً كاذباً ، أو ضعيفاً لا يصح الاعتماد عليه ، أو خبراً غير قطعي الثبوت ، فمن الممكن دخول خطأ فيه من نقل الراوي أو فهمه ، إذ يحتمل أنه روى المعنى الذي فهمه هو ، ولم يرو اللفظ ذاته الذي أخبر به الرسول ، وهذا إنما يكون في أحاديث الآحاد فقط ، أي : التي لم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي أو المعنوي .

 

      إما أن يكون الخبر الإسلامي قطعي الثبوت قطعي الدلالة ، ثم يخالف الحقيقة والواقع ، فهذا غير موجود حتماً ، وليس من الممكن أن يوجد قطعاً .

 

      ولكن هنا قد تقع مغالطة لا بد من التنبيه عليها ، وهذه المغالطة تأتي من قبل ما ينسب إلى الحقيقة العلمية ، الآتية عن طريق الوسائل الإنسانية البحتة ، فكثيراً ما يدعي الماديون أن فرضية من الفرضيات ، أو نظرية من النظريات ، قد أصبحت حقيقة علمية غير قابلة للنقض أو التعديل ، مع أن هذه النظرية لا تملك أدلة إثبات يقينية تجعلها حقيقة نهائية ، أو حقيقة مقطوعاً بها ضمن مستواها ، وذلك بشهادة العلماء ، الذين وضعوا هذه النظرية أو ساهموا في تدعيمها .

 

      ومن أمثلة ذلك الداروينية بالنسبة إلى نشأة الكون وخلق الإنسان ، فهي لا تملك أدلة إثبات قاطعة أو شديدة الترجيح ، ولكن كثيراً من العلماء الماديين يقبلونها تسليماً اعتقادياً ، لا تسليماً علمياً ، إذ ليس لديهم اختيار بعدها إلا الإيمان بالخلق الرباني ، وهذا أمر لا يجدون أنفسهم الآن مستعدين لقبوله ، ما دام منطق الإلحاد هو المسيطر على اعتقادهم في بيئاتهم .

 

      ويأتي كُسور من المثقفين (أنصاف – أرباع – أعشار) من المتأثرين بالنزعات الإلحادية فيدَّعون وجود التناقض بين الدين والحقائق العلمية ، استناداً إلى وجود اختلاف بين بعض المعارف الدينية وبعض الفرضيات أو النظريات التي لم تصبح بعدُ حقائق علمية ، وهم يزعمون كذباً أو يتصورون خطأ أن هذه الفرضيات أو النظريات قد أصبحت حقائق علمية ثابتة بشكل قطعي غير قابل للنقض ، وهنا يقعون في غلط علمي فاحش جداً ، ويتبع ذلك سقوطهم في ضلال اعتقادي كبير تجاه الدين وأصوله ومعارفه ، علماً بأن طائفة من النظريات التي نسبت إلى العلم قد وُضعت خصيصاً لدعم قضية الإلحاد والكفر بالله ، على أيدي يهود أو أجراء يهود ،وصيغت لها المقدمات والمبررات التي ليس لها قواعد منطقية علمية صحيحة .

 

      فالواجب إذن يتحتم علينا – أخذاً بطرق البحث العلمي السليم المحرر الذي أمرنا به الإسلام-أن نمعن النظر فيما قدمته شهادة العقل ، ووسائل البحث العلمي الإنسانية ، وفيما قدمته شهادة النصوص الدينية ، وأن نخضع هذه الشهادات للضوابط العلمية الصحيحة ، المتفق عليها في أصول العقل ، وفي أصول الدين .

 

      وإني لأجزم بكل يقين أننا لن نجد مسألة واحدة يستحكم فيها الخلاف بين شهادة النصوص الدينية اليقينية قطعية الثبوت قطعية الدلالة ، وبين الشهادة القاطعة التي يقدمها العقل ، أو الشهادة القاطعة التي يقدمها البحث العلمي الإنساني البحت .

 

      بل اليقيني من كل ذلك لا بد أن يتطابق في شهادته ، متى استطاع أن يصل إلى الحقيقة التي هي موضوع البحث .

 

      فإن وصل بعضها وبعضها الآخر لم يصل أعلن كل عن مبلغه من العلم قصَّر في المعرفة أو زاد ، وفي هذا لا يوجد تناقض أو خلاف ، ولكن يوجد بيان جزئي وبيان أشمل وأكمل ، أو بيان جزئي من جهة وبيان جزئي من جهة أخرى ، وفق مثال العميان والفيل[1].

 

      القسم الثالث : أنباء من أنباء الغيب الذي لا تستطيع الوسائل الإنسانية البحتة أن تصل إلى معرفته على ما هو عليه في الواقع .

 

      وهذه الأنباء الدينية الغيبية تخبر عن بعض حقائق الوجود الأكبر ، فمنها ما يتعلق بخصائص الخالق جل وعلا ، ومنها ما يصف بعض الحقائق الغيبية من واقع هذا الكون المخلوق لله تعالى ، كالملائكة والجن والعرش والكرسي ، ومنها ما يحكي أحداثاً سبق أن حدثت فيما مضى من الأزمان ، وليس باستطاعة الوسائل الإنسانية أن تستعيد صورتها الواقعية ، كقصة خلق آدم ، ومنها ما يُنبيء عن أحداث ستقع فيما يأتي من الأزمان ، ضمن واقع هذا النظام الكوني القائم ، كأشراط الساعة ، أو سوف تقع في نظام عالم آخر وحياة أخرى ، وهو ما جاء عن الآخرة زماناً وداراً وحياة وحساباً ونعيماً وعذاباً .

 

      وموقف العقل ووسائل البحث العلمي الإنسانية بالنسبة إلى ما جاء في هذا القسم يتلخص بما يلي :

      1- تحرير صدق الخبر وصحة دلالته .

      2- رفض ما لم يثبت صدقه ضمن قواعد تحرير صدق الأخبار .

      3- رفض ما خالف أحكام العقل القاطعة ، وهو ما يدخل في قسم المستحيلات العقلية ، كالجمع بين النقيضين ، وكوجود شريك لله الخالق سبحانه وتعالى ، فأي نبأ من أنباء الغيب يثبت شيئاً يحكم العقل حكماً قاطعاً باستحالة وجوده هو خبر مرفوض عقلاً وشرعاً ، وأي نبأ من أنباء الغيب ينفي شيئاً يحكم العقل حكماً قاطعاً بأنه واجب الوجود هو نبأ مرفوض عقلاً وشرعاًً .

 

       ولما قال الإمام الغزالي في كتابه "المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى" كلمته الحصيفة الرصينة المشتملة على نظر ثاقب عميق:

 

      " ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور قد يظهر فيه ما لا يظهر في العقل ".

 

      عقّب عليه باستدراك خلاصته : إن ما وراء العقل قد يكون بعيداً عن تصور العقل وتوهمه بُعداً بالغ النهاية ، لأن العقل محجوب عنه في حدوده التي لا يستطيع أن يتعداها ، لكنه لا يمكن أن يكون وراء العقل أشياء يحكم العقل حكماً قاطعاً باستحالتها ، فهنالك فرق كبير بين ما لا يدركه العقل فهو لا يتناوله بنفي ولا إثبات ، لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه ، وبين ما يحكم العقل حكماً قاطعاً بنفيه أو إثباته .

 

      فمن الأشياء التي لا يمكن أن يكون وضعها فيما وراء العقل على خلاف وضعها في أحكام العقل القاطعة لأنها من المستحيلات العقلية : أن يكون لله تعالى شريك ، أو أن يكون في مقدور الخالق جل وعلا أن يخلق مثل ذاته سبحانه ، أو أن يجعل الحادث قديماً ، أو ما أشبه ذلك .

 

      وقد أوفيت هذا الموضوع بمزيد من الشرح والتفصيل في كتابي : "العقيدة الإسلامية وأسسها".

 

      4- ما له دلائل وقرائن من العقل تؤيده فإن موقف العقل منه موقف الشاهد المؤيد المسلم .

 

      5- التسليم التام في كل ما يقول فيه العقل : لا أدري ، إذ ليس لدي من الأدلة الظاهرة في مقاييسي ما أستطيع أن أثبت به ، كما أنه ليس لدي منها ما أستطيع أن أنفي به .

 

      وهذا التسليم تصديق لشهادة النص الديني الثابت من جهة الرواية ، وفق أصول تحقيق المستندات الأخبارية ، وتصديق شهادة النص الديني له مستند عقلي قاطع ، لأن العقول يقول : ما جربته من أنباء الإسلام الصحيحة النسبة بشكل يقيني لم أجد فيها إلا الحق ، وكل ما وجدته فيها مما استطعت الوصول إلى حقيقته الواقعة بنفسي كان حقاً وصدقاً . ويقول العقل أيضاً: إن من يملك تغيير سنن الكون الثابتة بما يجريه من معجزات على أيدي أنبيائه ورسله ، ليعلمني بأن الكون كله خاضع لقدرته وإرادته ، وليعلمني بأن أخباره التي يبلغها أنبياؤه ورسله أخبار صادقة ، لا يمكن أن تكون أخباره عن الغيوب التي لا أستطيع الوصول إليها بنفسي أخباراً مخالفة لحقيقة الغيب وواقعه .

 

      لكل ذلك فإنه يجب التسليم بها تسليماً قاطعاً لا يداخله ريب .

 

[1] مثل أورده الغزالي وغيره ، خلاصته أن عدداً من العميان قُدّم لهم فيل ليصفوه ، فوقعت يد كل منهم على جانب منه ، ثم أخذ يصف الفيل عن طريق ما تلمسه بيده منه ، فوصف أحدهم ملاسة الناب وقسوته ، والآخر خشونة الذيل ، والثالث ما تلمسه من الخرطوم ، والرابع ما تلمسه من رجله ... وهكذا .

اضيف بواسطة :   admin       رتبته (   الادارة )
التقييم: 0 /5 ( 0 صوت )

تاريخ الاضافة: 26-11-2009

الزوار: 4330


المقالات المتشابهة
المقال السابقة
الحقيقة بين الدين والعلم
المقالات المتشابهة
المقال التالية
منهج الإسلام في المعرفة
جديد قسم مـقـالات الموقـــع
القائمة الرئيسية
البحث
البحث في
القائمة البريدية

اشتراك

الغاء الاشتراك