منهج الإسلام عند اختلاف وسائل المعرفة في النتائج

منهج الإسلام عند اختلاف وسائل المعرفة في النتائج

من كتاب :

      صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

      تأليف

      عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

 

 

          سبق في الفصل الثاني (الحقيقة بين الدين والعلم) ، بيان منهج الإسلام عندما تختلف وسائل المعرفة في النتائج التي يتوصل كل منها إليها ، حول موضوع واحد ، أو حول نقطة في موضوع واحد ، فلا داعي لإعادة تفصيل هذا المنهج .

 

          وخلاصته أن وسائل المعرفة لا تختلف في النتائج التي تتوصل إليها حول موضوع واحد أو حول نقطة في موضوع واحد اختلاف تناقض إلا وبعضها أو جميعها قد دخل إليه الخلل ، وعلى الباحثين أن يعيدوا النظر فيما توصلوا إليه من نتائج ، واليقيني منها الذي غدا مقطوعاً به نهائياً ، وغير قابل للنقض أو التعديل بحال من الأحوال هو الذي يفرض نفسه علمياً ، سواء أكان نتيجة إدراك حسي ، أو استدلال عقلي ، أو نتيجة فهم لنص ديني يقيني الثبوت يقيني الدلالة .

 

          أما النظريات والفرضيات والاجتهادات والإدراكات الحسية ، التي لا تقدم يقيناً فهذه قد تختلف فيما بينها وقد تتناقض ، وقد يكون الواقع بخلافها جميعاً ، والأخذ بالراجح منها أمر تفرضه الضرورة الإنسانية ، ولا يكون بعضها حجة على بعض ، أو له القداسة المطلقة ،لن الحق منها هو ما طابق الواقع والحقيقة ، ومادامت نتائجها جميعاً غير يقينية فإن هذه المطابقة تظل مجهولة ، أو مشكوكاً بها ، أو في مستوى الرجحان فقط ، لا في مستوى اليقين المقطوع به .

 

          فليس لأحد أن يأتي بنظرية قابلة للتعديل ، أو بفرضية من الفرضيات ، ويجعلها علماً مقطوعاً به ، ثم يعيب بها ما يفهم من النصوص الدينية ، ويزعم بذلك أن الإسلام يخالف العلم ، وليس لأحد أن يأتي بفهم اجتهادي في النصوص الدينية ، وهو محتمل للخطأ أو التعديل ، ثم يجعل هذا الفهم الاجتهادي أمراً مقطوعاً به في الدين ، ثم يرد به ما أثبتته الوسائل العلمية الإنسانية إثباتاً نهائياً مقطوعاً به ، أو يرد به رداً قطعياً نظريات أو فرضيات من المحتمل أن يكون الواقع مطابقاً لها ، فالفهم الاجتهادي في النص الديني أخذ بما ترجح لدى المجتهد من دلالته ، مع احتمال أن يكون الواقع بخلافه ، والنظرية العلمية فهم اجتهادي في تفسير الظواهر الكونية بما ترجح لدى الباحث من دلالاتها . ويظل العقل في كل منهما يفرض احتمال أن يكون الواقع بخلاف هذا أو بخلاف هذا ، أو بخلافهما جميعاً ، فليس أحدهما حجة على الآخر ، إلا أن تكون أدلة ترجيحه أقوى ، فيتقوى بأدلته دون أن يعطي قطعاً وجزماً بنتائجه .

          وتنفرد النصوص الدينية ببياناتها عن أمور الغيب التي تعجز الوسائل الإنسانية عن إدراكها حساً أو استدلالاً .

 

          ولدى اختلاف نتائج وسائل المعرفة حول فكرة واحدة ، أو اختلاف نتائج الباحثين في حدود وسيلة واحدة ، يجب التوقف عن الجزم والقطع ، ويقضي المنهج الأمثل بمتابعة البحث في كل الوسائل الممكنة للظفر باليقين العلمي ، ولا يمنع هذا من العمل في تطبيقات الحياة بمقتضى النتائج ، ولكل باحث أن يعمل بما ترجح لديه ، دون أن يُنحي باللائمة على من خالفه ، لاحتمال أن يكون هو المخطئ لا من خالفه فيما توصل إليه ، ما لم يظهر فساد الرأي المخالف بيقين ، أو برجحان شبيه اليقين ، وعند الظفر باليقين العلمي عن طريق أية وسيلة من وسائل المعرفة يتبين فساد كل الآراء المخالفة له ، ويحكم عليها عندئذٍ بالمحو من ديوان المعرفة ، وبالعزل عن مجالات النظر .

 

          ولهذا أمثلة في الواقع العلمي ، لقد سبق في تاريخ المعرفة الإنسانية أن دليل الحس البصري قدم لنا صورة حسية عن شروق الشمس وغروبها ، فقرر المشاهدون المبصرون أن الشمس هي التي تتحرك وتسير في السماء من الشرق إلى الغرب ،وأن الأرض ثابتة .

 

           ثم انفتحت للإنسان دلائل الاستدلال العقلي اعتماداً على أمارات كثيرة ، فغيرت نظرته إلى هذه الحقيقة ، وجعلته يفسر مشاهدات الحس تفسيراً آخر ، خلاصته أن الأرض هي التي تدور حول نفسها ، فتشرق الشمس على قسم منها بهذا الدوران ،وتغرب عن قسم آخر ، ويتوهم الحس البصري أن الشمس هي التي تسير هذا السير ، باعتبار اتحاد النسبة من جهة ، وعدم شعور ركاب الأرض بحركتها من جهة أخرى .

 

          وهنا نلاحظ وجود التناقض بين النتيجة التي قدمها الحس البصري والنتيجة الأخرى التي قدمها الاستدلال العقلي ، وقام الجدل بين أنصار شهادة الحس البصري ، وأنصار شهادة الاستدلال العقلي .

          وكان على الإنسان أمام هذا التناقض في النتائج أن يعيد النظر لاستبانة المخطئ من الوسيلتين للظفر باليقين العلمي ، نظراً إلى أن أمارات العقل لم تقدم في حدودها الأولى يقينا ً.

 

          ولدى إعادة النظر تبين للإنسان وجود احتمال كون الحس البصري هو المخطئ ، وذلك حين دخل محطة انطلاق قطارات سكة الحديد ،وركب في أحدها ، وكان في جواره قطار ساكن ،ولما انطق القطار الذي هو فيه خدعه حسه البصري فحسب أن القطار المجاور له هو الذي انطلق، وكان هذا من الحس البصري شهادة مخطئة ، ثم لما انطلق القطار بعيداً تبين له أن الحقيقة بخلاف ما حسبه من قبل .

 

          وبهذه المراجعة الأولى بدأ الإنسان يشك بشهادة حسه البصري عن الحركة ، وبدأ يترجح لديه جانب الاستدلال العقلي في هذا الموضوع ،دون أن يستطيع كثير من الباحثين تقديم يقين كامل في أول الأمر يثبت أن الأرض هي التي تدور حول نفسها ، وأن الشمس بالنسبة إلى هذه الحركة بالذات ثابتة .

 

          وتابع البحث العملي خطواته ، وصعد الإنسان إلى الأجواء العليا ، وتحرر من سلطان خداع الحسب البصري على سطح الأرض ، وتحقق بالمشاهدة البصرية النتيجة التي قدمها الاستدلال العقلي ، وأثبت بيقين علمي أن الأرض هي التي تدور حول نفسها في كل يوم مرة ، وبذلك تفسر ظاهرة الليل والنهار ، وأنها تدور حول الشمس في كل عام شمسي ، وهو السبب في كثير من الظواهر التي تحدث في الأرض .

 

          وهكذا لما برئت شهادة الحس البصري من علة الخطأ التي كانت واقعة فيها اتحدت النتيجة ، فكان ما أثبته الحس عين ما أثبته الاستدلال العقلي ، ووصل الإنسان إلى معرفة هذه الحقيقة إلى مرتبة اليقين .

 

          أما النصوص الدينية في هذا المجال فلا نجد فيها نصاً ثابتاً قاطع الدلالة على ما يخالف هذه الحقيقة التي أثبتها الاستدلال العقلي ، ثم شهدها الحس لما تحرر من منطقة الخداع البصري ، بل نجد في النصوص الدينية ما يفهم من عمومها دلالات توافق ما انتهى إليه دليل العقل ثم دليل الحس ، وحين نجد بعض العلماء السابقين قد فهموا من هذه النصوص فهماً مخالفاً لهذه الحقيقة فما علينا إلا أن نصحح فهمهم ، ونعيد النظر في اجتهادهم ، لأن النصوص الدينية المبلغة عن الله بطرق ثابتة يقينية لا يمكن أن تكون دلالاتها الصحيحة مناقضة للحقيقة والواقع ، وعملية المراجعة هذه لا تمس النصوص الدينية ذاتها ، وإنما تمس المفاهيم الاجتهادية التي فهمها مجتهدون ليسوا بمعصومين عن الخطأ ، على أن كثيراً من العلماء المسلمين السابقين قد فهموا من هذه النصوص الدينية مفاهيم تتفق مع النتيجة العلمية التي انتهت إلهيا وسائل الاستدلال العقلي والإدراك الحسي .

 

          والواقع في كل الأحوال هو الحَكَم على كل وسائل الاستدلال .

 

 

          بعد أن أوضحت لنا الخطوط الكلية العامة للمنهج العلمي الإسلامي ، ظهر لنا تماماً زيف ادعاءات الناقد (د. العظم) إذ صور المنهج الإسلامي كما يشتهي أن يصوره للناس ، لتنفيرهم من الإسلام ، وأخذ يغالط في الأمور بناءً على ادعاءاته الكاذبة ، ثم أخذ يصدر بناء على مغالطاته وأكاذيبه أحكاماً تقريرية من عند نفسه يتهم بها الإسلام ومنهجه للوصول إلى المعرفة .

 

          وما أعتقد أنه يجهل هذه الحقائق كلها أو بعضها عن الإسلام ومنهجه العلمي ، ولكن المبطلين كثيراً ما يعرفون الحق إلا أنهم يراوغون عنه ، ويحاولون طمس وجهه المشرق الجميل ، لأنه يخالف أهواءهم ولا يحقق لهم ما يشتهون ، وهذه هي علتهم النفسية .

 

          أما الشاكون الباحثون عن الحقيقة بإخلاص فإنهم لا يغالطون ولا يكذبون ولا يتلاعبون بالحقائق، ومتى وصلوا إلى إدراك الحقيقة بأنفسهم ، أو عُرِّفوا بها عن طريق المناظرة ، فإنهم يستمسكون بها كما لو ظفروا بكنز عظيم ، ويسهل عليهم الاعتراف والتراجع عن آرائهم السابقة التي كانوا يتصورونها حقاً أو أموراً مرجحة ، لأن معرفة الحق هو الأمر العظيم الذي ينشدونه ويبحثون عنه بإخلاص , ولا يبحثون عن مجرد مبررات يصنعونها بأنفسهم ، لتدعيم ما تميل إليه أهواؤهم وشهواتهم ، ومصالحهم السياسية أو الحزبية ، بخلاف المبطلين في كل ذلك ، لا سيما الملاحدة ذوو الأهداف الحزبية السياسية .

 

          لما زعم الناقد (د. العظم) أن المنهج الذي اعتمده الإسلام للوصول إل المعارف والعلوم والقناعات عن الكون وتركيبه وطبيعته ، وعن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور هو الرجوع فقط إلى نصوص دينية معينة تعتبر مقدسة أو منزلة ، ورتب فريته كما اشتهى ، وخالف فيما ادعاه حقيقة المنهج الإسلامي الذي وضحت لنا خطوطه الكلية العامة ، وأدخل في كلامه مغالطات مكشوفة ، أورد تعليقة التالي فقال في الصفحة (23) من كتابه:

 

          "إن الروح العلمية بعيدة كل البعد عن هذا المنطق ، وهذه النظرة الدينية".

 

          إن أي ناظر في أصول المنهج الإسلامي الذي عرضنا خطوطه الكلية العامة يكتشف بنفسه افتراءات الناقد (د. العظم) وأكاذيبه ومغالطاته ،ويرى أنها مرفوضة من أساسها .

 

          إن ما أوضحناه من منهج الإسلام في هذا المجال يقنع – بحمد الله – كل ناظر ، ويسكت بالحق كل مناظر ، ونضيف هنا شواهد من النصوص القرآنية، تدل على مبلغ الدفع الإسلامي للبحث عن حقائق الكون وحقائق الإنسان ، عن طريق النظر في الكون نفسه ، وفي الإنسان نفسه ، وهذا النظر إنما يتم بوسائل البحث الإنساني ، وهي وسائل الإدراك الحسي ، ووسائل الاستدلال العقلي .

 

          فمن هذه الشواهد القرآنية ما يلي:

          ( أ ) قول الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول):

          {قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ...}.

 

          ففي هذا النص القرآني دعوة آمرة للبحث العملي في السماوات والأرض عن طريق النظر ، لا عن طريق تفسير النصوص .

 

          (ب) وقول الله تعالى في سورة (الذرايات/51 مصحف/67 نزول):

          {وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}.

 

          في هذا النص دعوة إلى البحث العلمي في الأرض وفي النفس الإنسانية للتعرف على آيات الله فيهما ، وهذا البحث العلمي لا بد أن يعتمد على وسائل الإدراك الحسي والاستدلال العقلي .

 

          ( ج ) وقول الله تعالى في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول):

          {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

 

          ففي هذا النص دعوة للنظر في ظاهرة التكوين عن طريق البحث العلمي ، الذي يعتمد الوسائل الحسية والوسائل العقلية ، لا على مجرد تفسير النصوص وفهم دلالاتها ، كما زعم الناقد (د. العظم) في ادعاءاته وافتراءاته ومغالطاته .

 

          وقد اندفع المسلمون فعلاً يطبقون منهج النظر العلمي في أنفسهم وفي الكون من حولهم ، للوصول إلى معرفة حقائق الأمور ، عن الكون والإنسان والحياة ، وسر المبدأ ومفاهيم النشأة ، وهذا البحث هداهم إلى تطبيق المنهج التجريبي ، في العلوم التي تخضع موضوعاتها للملاحظة والتجربة ، الأمر الذي دفع العالم الأوروبي المشهور (جب) إلى أن يقول في كتابه "الاتجاهت الحديثة في الإسلام"[1]:

 

          "أعتقد من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة ، وأنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى أوروبا في العصور الوسطى".

 

          فهل بعد هذا تبقى أية قيمة لافتراءات الناقد (د. العظم) ؟

 

          إن أي ناظر منصف يعرف هذه الحقيقة عن الإسلام لا يمكن أن يلتفت إلى افتراءاته وافتراءات أمثاله ، أو يتأثر بها ، ولا بد أن يعلم أن من الهراء الذي ليس له قيمة فكرية قوله في الصفحة (23) من كتابه:

 

          "أما الدين فبطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن يعيش في الحقائق الأزلية ، وينظر إلى الوراء ليستلهم مهده".

 

          يقصد بهذا الكلام أن الدين لا يسمح بالبحث والاكتشاف ، وإنما يفرض على المسلمين أن يقفوا في معارفهم عند حدود النصوص الدينية وتفسيراتها ، دون أن ينظروا في الكون ويبحثوا فيه بوسائلهم الإنسانية الحسية والعقلية .

 

          إن مثل هذا الافتراء لا يدخل إلى على الجاهلين بالإسلام ، والأغرار المضللين ، أما من قرأ شيئاً عن الإسلام مما كتبه كتاب مسلمون ، أو من المصادر الإسلامية المعتمدة فإنه يستطيع بسرعة أن يكشف زيف هذا الكلام وما فيه من أباطيل .

 

 

          يقول الناقد (د. العظم) في الصفحة (24) من كتابه:

          "هناك تشابه بين الدين والعلم في أن كليهما يحاول أن يفسر الأحداث ، وأن يحدد الأسباب .إن الدين بديل خيالي عن العلم ، ولكن تنشأ المشكلة عندما يدعي الدين لنفسه ولمعتقداته نوعاً من الصدق لا يمكن لأي بديل خيالي أن يتصف به".

 

          إن أي ناظر في هذا الكلام (العظمي) لا يرى فيه أي شيء من النقد العلمي ، وما زعمه دليلاً فيما كتبه حول هذا الموضوع سبق أن كشفنا زيفه .

 

          إذا كان يريد نقداً علمياً صيحاً فما باله يعطي من عنده تقريراً يلقيه جزافاً من غير أي دليل صحيح ، ويتهم فيه الدين بأنه بديل خيالي عن العلم؟

 

          باستطاعة أي جاهل أن يقدم تقريراً لأتباعه من العميان يقول لهم فيه : إن الشمس التي يزعمها المبصرون ليست سوى بديل خيالي عن الشعلات البترولية التي يوقدها الذين اكتشفوا البترول واستخرجوه من أعماق الأرض .

 

          ليس هذا في الحقيقة سوى شتائم باستطاعة أي إنسان محروم من الأخلاق العلمية أن يكيلها ، فيسمي الحق باطلاً دون أن يقدم أي برهان ، ويتهم الجميل بالقبح ، ويصم العالم بالجهل ، ويجعل الفضيلة رذيلة ، وهكذا بلا ضابط فكري ولا ضابط أخلاقي ، ولسنا نريد أن تكون معركتنا مع الملاحدة معركة شتائم ، فلنقتسم معهم خطتي رشد وسفاهة ، فنأخذ نحن خطة الرشد ، ويأخذون هم خطة السفاهة . وخطة الرشد لا بد أن تنتصر في آخر الأمر على خطة السفاهة ، لأن للحق قوة وسلطاناً على العقول ، ولأن للرشد قوة وسلطاناً على القلوب . وخطة السفاهة ترغي وتزبد ولا حق يدعمها ، ولا فضيلة تزينها ، أو إلى القلوب تقرِّبها .

 

          إنه لأمر طبيعي في الملاحدة – بعد أن جحدوا وجود الله تبارك وتعالى وهو مصدر الدين والمنزل لتعاليمه- أن يعتبروا ما جاء في الدين من أخبار صادقة أموراً خيالية ، وأن يتهموا الدين بأنه بديل خيالي عن العلم ، لكن البراهين العلمية نفسها تلزمهم بالإيمان بالله لو كانوا مخلصين حقيقة للعلم ، إنهم يهربون من الدين إلى التذرع بالعلم ، وحينما تردهم البراهين العلمية إلى الدين يراوغون ويخادعون ، فيترددون في منطقة مظلمة لا تشرق عليها أنوار الدين ولا تشرق عليها أنوار العلم ، ويعصبون أعينهم عن الحقيقة وينادون بالإنكار ، والإنكار موقف سلبي تجاه الحقيقة ، لا يكلف صاحبه أكثر من كلمة : لا أعترف ، أو أنكر ، أو أجحد ، أو هذا غير صحيح ، أو العلم لا يقبله ، أو العقل لا يقبله ، أو نحو ذلك ، وكلما جئته بدليل عقلي أو علمي قال : لا أسلم ، أو هذا دليل غير كافٍ ، أو لم يعطني قناعة كافية .

 

          ولكن إذا لم يكلفه الإنكار غير مثل هذه الأقوال عند المناظرة فسيكلفه الكثير الكثير عند الجزاء العادل ، وسيكلفه خسارة سعادته الأبدية ، وحمل ثقل الشقاء الخالد مع العذاب الأليم ، دون أن يحقق لنفسه أي كسب في الحياة الدنيا من موقفه السلبي الإنكاري .

 

          وإن أقول له ما قال الله في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول):

 

          {قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ * لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ }.

 

          لقد كان من الأهون عليه يوم الجزاء لو آمن وعصى ، وعرَّض نفسه لعقاب العصيان فقط ، وحَمَى نفسه من عقاب الكفر الذي لا نهاية له ، هذا إذا كان الدافع له إلى سبيل الكفر رغبته بالفجور ، والانطلاق في تلبية أهوائه وشهواته . أما إذا كان العناد والكبر هما الدافع له إلى الإلحاد والكفر فهذا شيء آخر لا دواء له إلا التنازل عن الكبر والعناد ، أو ليتحمل نتيجة كبره وعناده .

 

          وحين قال (د. العظم): "إن الدين بديل خيالي عن العلم ، ولكن تنشأ المشكلة عندما يدَّعي الدين لنفسه ولمعتقداته نوعاً من الصدق لا يمن لأي بديل خيالي أن يتصف به".

 

          فقد اعترف ضمناً بأنه لا يمكن لأي بديل خيالي أن يظفر بالثقة التي يظفر بها الدين ، بما في ذلك الآراء الإلحادية التي يجهد الملحدون بزخرفتها وتزيينها ، ومد الأصبغة والطلاءات عليها .

 

          والسر في ذلك أن الدين حق ، ولا يستطيع الباطل أن يظفر بما يظفر به الحق .

 

          وأما كون الدين يدعي لنفسه ولمعتقداته الصدق فهذه قضية خاضعة للقياس البرهاني ، إذا كانت المعارف الديِّنة مما تستطيع الوسائل الإنسانية الحسية أو الاستدلالية أو العقلية المجردة التوصل إليها . وهنا نجد التلاقي التام بين الثابت من العلم والثابت من الدين . أما غير الثابت من هذا أو ذاك فليس صالحاً من أساسه لأن يقف موقف اليقين والمعارضة ، بل هو احتمال قد يكون راجحاً وقد يكون غير راجح .

 

          وحينما يخبر الدين بأخبار صحيحة ثابتة يقينية عن أمور غيبية لا تستطيع الوسائل الإنسانية التوصل إليها بإثبات أو نفي ، فهي أخبار ليس من حق العلم الإنساني أن ينفيها ، ولكن لما ثبت أن الدين من عند الله ،وثبت ببرهان المعجزات صدق الرسول ، ورأينا صدق الأخبار الدينية الثابتة في كل الأمور التي استطاع العلم بوسائله الإنسانية التوصل إليها ، كان كل ذلك شهادة بأن الأخبار الأخرى عن أمور الغيب وحق وصدق ، ويجب الإيمان والتسليم بها .

 

          ويتابع الناقد (د. العظم) بإصرار دعائي كاذب ، فيقول:

          "إن محاولة طمس معالم النزاع بين الدين والعلم ليست إلا محاولة يائسة للدفاع عن الدين ، يلجأ إليها كلما اضطر الدين أن يتنازل عن موقع من مواقعه التقليدية ، أو كلما اضطر لأن ينسحب من مركز كان يشغله في السابق".

          ما هذا الكذب العظيم الذي لجأ إليه في هذا الافتراء؟! ألا أخبرنا عن قضية واحدة مما تنازل عنه الدين للعلم؟ وما هي المواقع التي تنازل عنها الدين وانسحب منها أو تراجع فيها؟

 

 

[1] نقلاً من كتاب "منهج التربية الإسلامية" للأستاذ محمد قطب .

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة