هل تراجع الإسلام عن عقيدة من عقائده .

هل تراجع الإسلام عن عقيدة من عقائده .

من كتاب :

      صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

      تأليف

      عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

 

          هل تراجع الإسلام عن حقيقة ثابتة بنص يقين؟

 

          إذا كان يريد تصحيح اجتهادات بعض المجتهدين من المسلمين فليست هذه الاجتهادات جزءاً من نصوص الدين ، حتى يعتبر الدين مسؤولاً عنها ، وحتى يعتبر تصحيحها تراجعاً في الدين . إن الخلافات في فهم النصوص الإسلامية ما زالت ولن تزال قوة حركة علمية بين علماء المسلمين .

 

          فدعواه التراجع وتصويره له بالصورة التي راقت له قضية مفتراة لا أساس لها من الصحة ، وليأتنا بواحدة منها حتى نناقشه فيها .

 

          إنه لن يستطيع إلا بالمغالطة والتضليل ، بيد أن التراجع مشاهد في النظريات العلمية لصالح الدين ، وسنعقد لهذا بحثاً منفصلاً.

 

 

          بإصرار مستميت حاول النقد (د. العظم) إثبات ما ادعاه من وجود التناقض بين الدين والعلم ، رغبةً بدعم الإلحاد التي يبشر بها في الوطن العربي ، خدمة للمنظمة الإلحادية العالمية ، ومن ورائها اليهودية العالمية ذات المصالح الخاصة التي تتحقق لها متى انتشر الإلحاد في الأرض وعمَّ الفساد في الشعوب .

 

          ولذلك فهو يصطنع أسساً وهمية لما يريد أن يثبته ، ثم يبني عليها أبنية خيالية لا وجود لها إلا في رؤوس أصحابها ، أو في رؤوس الذين ينخدعون بأقوالهم ، ويسلمون بها دون محاكمة علمية منطقية رصينة .

 

          قال في الصفحة (27) من كتابه:

          "فهل من عجب إذن أن نسمع نيتشه يعلن في القرن الماضي أن الله قد مات؟ وهل باستطاعتنا أن ننكر أن الإله الذي مات في أوروبا بدأ يحتضر في كل مكان تحت تأثير المعرفة العلمية ،والتقدم الصناعي والمناهج العقلية في تقصي المعرفة ، والاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد؟....".

 

          ثم قال في الصفحة (28):

          "إن قولنا باحتضار الله في المجتمعات المتخلفة يشكل تمثيلاً رمزياً لحالة الثوران والفوران ، وفقدان الجذور التي تعانيها هذه المجتمعات ، في محاولاتها الوصول إلى التعايش المرحلي بين الأفكار العلمية الجديدة وتطبيقاتها العملية ،وبين تراثها الديني السحيق ، دون أن تتنازل كلياً ومرة واحدة عما في ماضيها من قيم غيبية".

 

          يا عجباً ، وأية علاقة للتقدم الصناعي بموضوع إثبات الله أو نفيه؟ وأية علاقة أيضاً للاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد بهذا الموضوع نفسه؟

 

          لكنه صاحب مذهب معين أعماه التعصب لمذهبه ، فصار يحشر كل العبارات التي يرددها رفاقه في كل مكان ، ولو لم يكن لها أدنى علاقة بالموضوع ، حتى لو رأى العالم الطبيب الجراح في غرفة العمليات يجري عملية خطيرة في القلب لقال له : ما هذه العملية الرجعية ؟ إن الاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد تتطلب الرجوع قبل إجراء العملية إلى مفاهيم الحزب الثوري الذي بنى على المعرفة العملية والمناهج الثورية في تقصي المعرفة . ولو رأى الأم ترضع ولدها وتحنو عليه وكان هو لا يرغب بذلك لأطلق العبارات نفسها ، فقال لها : ما هذا التخلف؟ إن الاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد المبنية على المعرفة العلمية والمناهج الثورية في تقصي المعرفة تتناقض مع هذه العملية الرجعية السحيقة في القدم تناقضاً كليا ، فعملية إرضاع الأمهات أطفالهن تطبيق مناقض للعلم والاتجاهات الثورية ، وهي قائمة على تصور باطل للكون والحياة والإنسان ، لا سيما نظرية التطور ، والثورة الفرنسية ، والحقائق العلمية التي اشتمل عليها كتاب "أصل الأنواع" لداروين ، وكتاب "رأس المال" لكارل ماركس.

 

          فهو كلما رأى شيئاً يخالف مذهبه الباطل أو يخالف هواه جاء بهذه العبارات نفسها فرددها دون وعي لمضمونها ، ودون ملاحظة أية مناسبة بينها وبين الموضوع الذي يستعملها فيه.

 

          وقد ذكرني هذا بقصة الثري الغبي وبائع الببغاء ، قالوا : مرَّ ثريٌ غبي على بائع الطيور النادرة فوجده يعرض للبيع ببغاء تتكلم كل شيء ، حتى إنها تتكلم بمختلف اللغات ، فتعلقت نفس الثري الغبي بشرائها ، ولكنه أراد أن يستوثق من البائع عن صحة دعواه ، فقال له البائع الخبيث سل الببغاء فإنها تجيبك . فقال الثري لها : يا ببغاء أحقاً أنك تتكمين كل اللغات؟ فأجابته الببغاء: وهل أنت في شك من ذلك؟ فقال لها : فهل تتكلمين الفرنسية فقالت له : وهل أنت في شك من ذلك؟ فقال لها : والإنكليزية؟ فقالت له: وهل أنت في شك من ذلك؟ فانخدع بالأمر فاشتراها بثمن عظيم إذ استغل البائع الخبيث غفلته . ولما انصرف إلى بيته دعا أقرانه من الوجهاء والأعيان ليطلعهم على تحفته الجديدة ، وأخرجها إليهم وقال لهم : كلموها تجبكم بكل شيء ، فجعلوا يكلمونها فلا تجيب إلا بقولها : وهل أنت في شك من ذلك؟ عندئذٍ قال لها الثري : لقد كنتُ غبياً جداً بل حماراً إذ اشتريتك أليس كذلك؟ فقالت له: وهل أنت في شك من ذلك؟

 

          وهذا هو الجواب الوحيد الذي صدقت به ، وما كان لها أن تصدق بغيره ، لأن بائعها لم يُعلمها غير هذه العبارة .

 

          وكم نشاهد في الحزبين المتعصبين ببغاوات ، لا يفقهون إلا عبارات محفوظة يرددونها بمناسبة وبغير مناسبة ، حتى ولو كان أحدهم من الطلائع المثقفة التي تحمل شهادات كبيرة ، فالتعصب الحزبي المذهبي أخطر عمىً فكري تصاب به المجتمعات الإنسانية .

 

          لذلك فلا عجب أن نجد من نحن في صدده متهافتاً في كلامه ، متخبطاً في أفكاره ، يلبس بنطاله من يديه ، ويلبس معطفه من رجليه ، ويجري التبادل المضحك بين ألبسة الرؤوس والأقدام .

 

          ومن تمويهاته التي أراد أن يجعل منها مشكلة خاصة من مشكلات النزاع بين الدين والعلم قوله في الصفحة (29) من كتابه:

          "بعد أن عالجنا بشيء من التفصيل مشكلة الثقافة العلمية والاعتقاد الديني ، على مستوى النزاع بين الدين والعلم ننتقل الآن إلى معالجة الموضوع على صعيد ما أسميناه بالمشكلة الخاصة . والسؤال الذي سيدور بحثنا حوله يتلخص بما يلي: كيف يكون موقف الإنسان الذي تعرض للثقافة العلمية ، وتأثر بها تأثراً جذرياً من المعتقدات الدينية التقليدية والمؤسسات التي تتجسد فيها؟ أيستطيع هذا الإنسان أن يستمر في الاعتقاد بآدم وحواء ، وبالجحيم والنعيم ، وبأن موسى شق البحر الأحمر وحوّل عصاه حيَّة تسعى؟ كيف يكون موقف الإنسان الذي نشأ نشأة دينية وتقبلها جملة وتفصيلاً من النظرة العلمية الطبيعية للحياة والكون والإنسان؟ من العسير أن نجد بيننا شخصاً يتمتع بشيء من الحس المرهف وبقسط ولو متواضع من الذكاء والثقافة العلمية لم يعانِ التوتر الذي تنطوي عليه هذه الأسئلة ، والقلق الذي تثيره في إحدى مراحل حياته ونموِّه".

 

          أكل المشكلة الخاصة التي زعم سيادة الناقد أنها تحدث القلق والتوتر هي أن يعتقد المثقف العصري بآدم وحواء ، وبالجحيم والنعيم ، أي بقانون الجزاء الرباني ، وبالمعجزات التي يجريها الله على أيدي رسله ليشهد لهم بصدقهم فيما يبلغون عنه؟

 

          ما هو مدى تأثير هذه العقائد على أي تقدم في الصناعة أو في الفيزياء ، أو في الكيمياء أو في الطب والزراعة ، أو في الفلك والرياضيات أو في التكنولوجيا أو في أي مجال نافع من مجالات الحياة؟

 

          هل إنكار آدم وحواء يمثل قاعدة الارتقاء في المعرفة ، فمن آمن بهما توقف ومن أنكرهما وارتقى؟

 

          هل تنحل مشكلة القلق والتوتر إذا هو آمن بجدٍّ من القرود بدل آدم ، وبجدة قردة بدل حواء؟

 

          هل الإيمان بالآخرة وقانون الجزاء الرباني لالتزام فعل الخير وترك الشر يعتبر معوقاً من معوقات التقدم العلمي والصناعي؟ وهل الكفر بهما يعطي شحنة دافعة للتقدم العلمي والصناعي ؟

 

          ما هذا الكلام الهراء الذي لا يقوله ولا يقبله إلا السخفاء؟

 

          أيها الملحدون ارفعوا عن قرون الجهل الفاضح والحماقة السخيفة الحجرية أقنعة العلمانية ، إن العلم الصحيح الثابت لا يخدم قضيتكم الباطلة ، إن العلم الصحيح بعيد عن دعوتكم ومذهبكم كبعدكم عن الله الذي تجحدونه ، وعن آياته وبياناته التي تنكرونها ، وعن أخباره التي تسخرون منها .

 

          إن ما زعمه الناقد (د. العظم) فيما أسماه بالمشكلة الخاصة التي تحدث في نفس المثقف ثقافة علمية توتراً وقلقاً ، حينما يحاول التوفيق بين عقائده الدينية ومعارفه العلمية يشبه مشكلة المدينة التي داهمت الجيوش الغازية أسوارها ، وأهلها لا يخرجون للدفاع وصد الغزاة ؛ لأنهم يعانون توتراً فكرياً وقلقاً خطيراً حول السؤال التالي : هل وجود الدجاجة كان سابقاً لوجود البيضة؟ أم وجود البيضة كان سابقاً لوجود الدجاجة؟

 

          الحقيقة أن الملحدين هم الذين يعانون من القلق والتوتر ، ويقعون تحت وطأة التناقض بين الحقيقة وبين ما اختاروا لأنفسهم من مذهب باطل من جهة ، وبين العناد والخوف من المصير من جهة أخرى ، وهذا يظهر في حالات العنف الذي يبدو في تصرفاتهم ، والاضطراب الشديد الذي تعاني نفوسهم منه ، لأن عقولهم الباطنة وجذور ضمائهم لا تستطيع أن تنكر الحقيقة ، بينما لا تستطيع نفوسهم المجرمة وشهواتهم العارمة أن تسلِّم بها ، فهم بذلك يقعون في حالات الصراع الداخلي العنيف ، الذي لا يحلُّه إلا العناد والإمعان في الجريمة ، وتجاهل المصير الخطير المؤلم الذي يقذفون بأنفسهم إليه ، ويبدو بعد ذلك صفرة كالحة في وجوههم ، وحقداً على الناس في معاملاته ، ووحشية عجيبة حين يظفرون .

 

          أما المؤمنون فهم – على العكس من كل ذلك- يظلون مطمئنين في كل أحوالهم ، ولا يوجد في داخلهم تناقض بين الحقيقة وما يعتقدون ، ويشعرون دائماً بالأمن تجاه مصيرهم ، لأن الله قد ضمن لهم الجنة بإيمانهم ، وحينما يقلقون بعض القلق من المعاصي التي قد يفعلونها تأتي مفاهيم التوبة ورجاء الغفران فتمسح عن نفوسهم القلق ، وتعيد لها طمأنينتها ثقة برحمة الله وعفوه ، ومشاعرهم نحو الناس تتدفق بالمحبة والرحمة وإرادة الخير والهداية للناس كل الناس . وحينما يجدون خلافاً بين ما يقوله واضعو النظريات العلمية وما يقوله المجتهدون في فهم النصوص الدينية فإنهم يقولون : إن الحقيقة واحدة ، لا تتعدد ، والدين لا يلزمنا باعتقاد غير الحقيقة . فلا بد أن يكون الخطأ فيما سمي نظرية علمية ونسب إلى الحقيقة العلمية نسبة غير صحيحة ، أو فيما نسب إلى الدين وهو في الواقع اجتهاد خاطئ في فهم النصوص ، أما ما هو يقيني في الدين وما هو يقيني في العلم فإنه لا يوجد فيه خلاف مطلقاً ، ومعظم الأمور الطبيعية الكونية سكت عنها الدين ، لأن البحث الإنساني سيصل إليها بنفسه ، وكثير من الأمور الغيبية الكبرى لا يستطيع البحث العلمي أن يصل إليها بنفسه ، أو أن يحدد صفاتها وخصائصها ، لذلك فهو يعتمد فيها على الدين ولا يستطيع أن يحكم عليها بإثبات أو نفي .

 

          وحينما يتجاوز العلم الإنساني حدوده ، ويحاول أن يصدر أحكاماً بإثبات أشياء أو نفيها لا تملك وسائله إثباتها أو نفيها ، فإن المؤمنين بالدين يقولون للبحث العلمي : قف ولا تتعد حدودك . لذلك فحينما يأتي باحث إنساني فيحكم على تاريخ الإنسان حكماً يغلي فيه آدم وحواء وقصتهما في نشأة هذه السلالة البشرية فإن المؤمنين بالدين يقولون له: لقد تجاوزت حدود وسائلك التي تكسبك المعارف الصحيحة ، ووقعت في التخيلات الذهنية التي ليس باستطاعتها أن تقدم حقائق علمية .

 

          لست أدري ما هي الحقائق العلمية الثابتة القائمة على أدلة يقينية والتي تستطيع أن تلغي فكرة آدم وحواء وقصتهما الواردة في النصوص الدينية؟ أما الافتراضات والتخيلات والاحتمالات الذهنية فليس من شأنها أن تثبت حقائق علمية ، ما دام يوجد ما يناظرها ويكافئها في عالم الافتراضات والتخيلات والاحتمالات الذهنية .

 

          الواقع أنه لا توجد حقائق علمية تنفي آدم وحواء وقصتهما ، أما الداروينية فإنها فرضية لا تمثل الحقيقة من جهة ، ولا تملك أدلة إثبات صحيحة ، ولا تستطيع أن تنقض خبراً دينياً ، أو تقوى على ما يفهم من ظاهره حتى نلجأ إلى تأويله بما يتفق مع الحقيقة العلمية ، لذلك فإن المؤمنين بالدين لا يعانون تناقضاً في هذه المسألة بين عقيدتهم الدينية ومفاهيمهم العلمي ، إنهم يقولون للعم : تابع بحثك حتى تصل إلى اليقين العلمي ، الذي لا يرتبط بتقدم في المعرفة أو في الصناعة ، أو في الاختراع والإبداع ، أو في الحضارة وسعادة الإنسان ، وليس من شأن الخلاف العلمي فيها أن يحدث قلقاً وتوتراً ، حتى يعطيه سيادة الناقد كل هذه الأهمية .

          ولكن كيف يجد الملاحدة مشكلات يهزون بها واقع الصدقة المتينة بين الإسلام والعلم؟ إنهم إذا لم يجدوها في الواقع فلا بد أن يصطنعوها بالتزوير والكذب ، وبإيجاد النظريات التي ينسبونها إلى العلم ، والعلم منها بريء ، ويسخِّرون لترويجها عناصر كثيرة يشترونها بوسائلهم المختلفة .

 

          وأما اعتقاد المؤمنين بالجحيم والنعيم فهو موضوع يتصل الإيمان باليوم الآخر ، وقد شرحنا هذا الموضوع سابقاً شرحاً كشفنا فيه زيف جحود الملحدين ، وأوضحنا فيه أن الملحدين لا يملكون أي دليل عقلي أو علمي يستطيعون أن ينفوا به الحياة الأخرى وما فيها من جزاء ، بيد أن المؤمنين هم الذين يملكون الأدلة لما يؤمنون به .

 

          فلا نزاع بين العلم والدين ، ولكن النزاع بين الإيمان العلمي وبين الكفر الجاهل المخادع الذي يلبس أثواب العلم زوراً وبهتاناً .

 

          وأما معجزات الرسل فقضية تتصل بقدرة الله الخالق القادر على تغيير ما يشاء من أنظمة كونه ، لإثبات قضية الإيمان لعباده وتصديق رسله فيما يبلغون عنه ، وهذه قضية لا تتعارض مع العقل ولا مع العلم الصحيح .

 

 

          يتابع الناقد (العظم) إصراره المستميت على ادعاء وجود التناقض بين الإسلام والعلم ، فنجده يعرض أقوال بعض الباحثين المسلمين الذين يوضحون أنه لا نزاع ولا تناقض بينهما ، ثم يعلق عليها بأنها توفيقات خطابية ، أي : لا تعتمد على أدلة علمية ، بينما لا يأتي هو بأي دليل علمي أو منطقي يثبت فيه ادعاءاته الباطلة ، ويكتفي بالخطابيات والتقريرات ، والأكاذيب والمغالطات .

          إنه حينما أراد التعليق على كلام جيد للدكتور الشهيد صبحي الصالح لم يجد إلا دليلاً سفسطياً أضعف من الدليل الخطابي بكثير .

 

          يقول في الصفحة (34) من كتابه تعقيباً على ما قاله الدكتور الشيخ صبحي الصالح:

 

          "إذا صح قول الدكتور الصالح بأن الباحث يجد في الإسلام ما يريح قلبه وأعصابه ، ويرضي فكره وفلسفته ، حول الإنسان وطبيعة الحياة وحرية الإرادة ضمن المشيئة الإلهية ، تكون المشكلة قد انحلت أصلاً وسلفاً ، ولا داعي لكل هذا الضجيج حول انسجام الإسلام مع العلم الحديث ، وكل هذا الهجوم على الإلحاد والملحدين ، وكل هذا الاهتمام والجدل والنقاش حول مشاكل الشباب المسلم ، أمام تحديات الحياة العصرية والقرن العشرين".

          لا يخفى على أي ناظر ما في هذا الكلام من سفسطة واضحة ، ومغالطة مكشوفة .

 

          إن الضجيج يأتي من غوغائية الملحدين ، الذين يحاولون أن يقيموا الحرب بين الإسلام والعلم ، ليفتنوا الشاب المسلم عن دينهم ولا يأتي من قبل الباحثين الإسلاميين ضد العلم الصحيح ، ولئن وجد شيء من الضجيج من قبل بعض المسلمين فهو ضد النظريات المدسوسة على العلم ، وهي تخالف العقائد والمفاهيم الإسلامية ، على أن هذه النظريات لا يتحمل العلم اليقيني وزرها .

 

          ومن هنا تأتي سفسطة (العظم) فبينما يكون البحث في دائرة التحليل للحقائق على مستوى النظرة المجردة ، البعيدة عن الحدود الضيقة لآراء الناس ، إذا به يستدل بآراء الناس المختلفة ، لإثبات ما ادعاه حول طريقين من طرق المعرفة ، ومغالطته هنا تقوم على أساس التعميم العجيب بين الدين ومفاهيم المجتهدين على اختلافهم وجماهير المتدينين من جهة ، ويجعل كل أولئك حزباً متكافلاً متضامناً ، وبين العلم اليقيني والنظريات والفرضيات المنسوبة إلى العلم بغير حق ، وجماهير الماديين والملاحدة من جهة أخرى ، ويجعل كل هذه حزباً متكافلاً متضامناً .

 

          والنتيجة التي يريد أن يستنتجها بهذه السفسطة هي ما يلي:

          إذا حصل خلاف بين جزء من الحزب الأول ، وجزء من الحزب الثاني فمعنى ذلك أن كل الحزب الأول مناقض للحزب الثاني .

 

          فهل يقبل هذا الكلام الهراء من لديه مُسكة من عقل سوي؟

 

          إنه رفض الكلام الذي سماه كلاماً خطابياً وقدَّم في استدلاله هذه المغالطة المكشوفة ، والسفسطة السخيفة .

 

          مع أن حقائق العلم هي التي تقارن بها حقائق الإسلام ، ولا تقارن حقائق الإسلام بالنظريات والفرضيات ومذاهب الماديين غير الثابتة ، وأهواء الملاحدة الذين يحاولون أن يتخذوا من العلم دريئة لهم ، فلا يقدم لهم غير فرضيات احتمالية لا دليل عليها . هذه ليست بعلم وإن سماها أصحابها علماً ، وحينما يوجد بينها وبين حقائق الدين تناقض فهو تناقض يشرف الدين ويرفع من قيمته ، ويجعله مزيجاً من حقائق وظنون وأوهام.

 

          وفي مقابل كل هذا فإن حقائق الإسلام هي التي تقارن بها حقائق العلم ، ولا تقارن حقائق العلم بظنون المجتهدين ، أو بأغلاط المخرفين ، على أنها من جوهر الدين ، ولا تقارن أيضاً بأهواء أصحاب الضلالات الذين ينتسبون إلى الدين ، ويحاولون أن يتخذوا منه دريئة لهم ، ليحموا أنفسهم ومصالحهم ويبرروا ضلالاتهم .

 

          إن قضية البحث العلمي ليست بمثل السهولة التي أراد أن يصورها (د. العظم) بها ، فيتخذ من التعميم الفاسد أحكاماً وهمية باطلة ، إن البحث العلمي يحتاج إلى تحليل عناصر الموضوع المطروح للبحث ، وبعد تحليل العناصر يحكم على كل جزء مهما صغر بالحكم الملائم له.

 

          إن العلم لا يحمل أباطيل الملحدين ولا يُعتبر مسؤولاً عنها ، ولا يحمل ظنون المخطئين ولا يُعتبر مسؤولاً عنها . وكذلك الدين فإنه لا يحمل أباطيل المخرِّفين ، ولا يعتبر مسؤولاً عنها ، ولا يحمل أخطاء المجتهدين ولا يعتبر مسؤولاً عنها .

 

          فحينما يقام جدل بين جبهة المتدينين وجبهة غير المتدينين فإنه لا يمثل جدلاً ونزاعاً بين الدين والعلم ، وإنما يمثل جدلاً ونزاعاً بين منتسب إلى العلم بالباطل وبين منتسب إلى الدين بغير حق ، أو بين منتسب إلى العلم بالباطل وبين الدين الحق ، أو بين منتسب إلى الدين بغير الحق وبين العلم الحق . أما الدين الحق والعلم الحق فلا نزاع بينهما ولا جدال في الحقيقة .

 

          وباستطاعتنا أن نؤيد هذا المنهج التحليلي المفصل بالأدلة والبراهين القاطعة .

         

          أما من يلجأ إلى التعميمات السوفسطائية بقصد التضليل والمغالطة ، فإننا نلجمه بلجام المنطق السديد ، ونقول له : عد إلى رشد المعرفة ، وإياك ومراوغة المضلين .

 

          وباستطاعنا أن نقرر القانون التالي:

 

          1- كل حقيقة من حقائق العلم الثابتة لا يمكن أن تناقض أية حقيقة من الحقائق الثابتة في الدين الصحيح .

 

          2- كل حقيقة من حقائق الدين الحق لا يمكن أن تناقض أية حقيقة من الحقائق الثابتة في العلم الصحيح .

 

          3- ما يبدو من تناقص بين ما ينسب إلى الدين وما ينسب إلى العلم ، فإنه لا يخلو إما أن ما نسب إلى العلم أمر باطل أو ما نسب إلى الدين أمر باطل أو فهم خاطئ ،أو كلٌّ مما نسب إليهما فاسد النسبة غير صحيح ، وفي هذه الأحوال يجب متابعة البحث لتصحيح الخطأ فيما نسب إلى العلم أو فيما نسب إلى الدين .

 

          هذه هي قواعد الإيمان ، وهذه هي مناهج المؤمنين ، أما الملحد فإنه يريد أن يبحث الأمور على المستوى الذي لا تضبطه قاعة عقلية أو علمية ، مستوى المغالطات والأكاذيب والافتراءات . على هذا المستوى يسير في جدلياته ومناقشاته ، ويتصور أنه بحيله وألاعيبه يستطيع أن يخدع الطلائع المثقفة من أبناء المسلمين ، هذا هو وضعه في كل مناقشاته وجدلياته وتقريراته ، في الوقت الذي يطالب فيه الباحثين من المسلمين بالتزام قواعد (ديكارت) في منهج البحث السليم!!

 

          أين التزام قواعد ديكارت في جدلياته ومناقشاته؟! بل في أي مقطع من كلامه نجد هذا الالتزام ؟!

 

          إنها لمفارقة عجيبة ، بل إنها لوقاحة عجيبة!! وهذه الوقاحة سمة كل المبطلين المصرين على باطلهم ولو عرفوا أنه باطل .

 

          يقول في الصفحة (35) وما بعدها ما يلي:

          "واضح أن كلام المُوفِّقِين الخطابيين يبقى دوماً (عن سابق إصرار) على مستوى التعميمات الفضفاضة التي لا تزعج أحداً ولا تحرج مواقف إنسان ، إذ هل يعقل أن يكون أحد ضد (الحق) و(العلم) و(المعرفة)؟. إنه منطق المجاملات وجبر الخواطر الذي يرضي جميع الأطراف ولا يزعج أحداً ، لذلك يبتعد هؤلاء الموفِّقُون عن بحث أية مشكلة ذات طابع محدد قد تضطرهم إلى الخروج من مجال المفاخرة بمزايا الدين الإسلامي وحسناته العملية للدخول في مجال التحليل الدقيق للمشكلة المطروحة .

 

          "في الواقع يفتقر كلامهم حتى لأكثر أدوات التحليل الفكري بدائية ، كما يفتقر إلى أبسط القواعد المنهجية في التمحيص والتفكير العلمي ، حتى قواعد (ديكارت) في منهج البحث السليم التي وضعها في القرن السابع عشر وأصبحت أموراً بدائية وفجة جداً في عصرنا لا نجد لها أي أثر في أبحاث الموفقين الخطابيين . من قواعد (ديكارت) الأساسية : طرح المشكلة المراد حلها بالتحديد ، ومن ثم تقسيمها بصورة منتظمة إلى عدد من القضايا الجزئية التي تتكون منها ، ومن ثم معالجة الأجزاء الأبسط استعداداً للانتقال إلى المسألة الأكثر تعقيداً وتركيباً ، إلى آخر القصة الديكارتية المعروفة حتى في المدارس الثانوية".

 

          هذا كلام الناقد (د. العظم) عن المنهج الديكارتي ، والذي أصبح في نظره من الأمور البدائية والفجة ، وجاء بعده ما هو أدق منه وأكمل .

 

          ولكن ما باله في جدلياته ومناقشاته لا يطبق أدنى مستويات المنهج الديكارتي الذي يعرفه؟!

 

          هل يقبل المنهج الديكارتي هذه التعميمات التي يسلكها؟ وهذه المغالطات التي يصطنعها؟ وهذه المفتريات التي يفتريها على الحقيقة؟

 

          إن مناقشاته لتفتقر إلى أبسط أصول الفكر الإنساني الموجودة عند الشعوب البدائية فضلاً عن الشعوب المتقدمة حضارياً، فضلاً عن معاهد العلم والدراسة ، فضلاً عن المستوى الأكاديمي ، فأين هو من تطبيق ما يعرف؟.

 

          لكن التعصب للباطل والإصرار عليه يجعلان الإنسان يخرج حتماً عن دائرة المنهج السوي ، ويجعلانه متخبطاً في مناقشاته ، ساقطاً في مناظراته ، متهافتاً في كلامه . إن المنهج السوي لا يقدم لأقواله الباطلة أدلة إثبات ، لذلك فهو مضطر إلى أن يلجأ إلى المراوغة والحيلة والكذب ، وهذه لا تقع ضمن خريطة المناهج الفكرية السليمة ، ولا تستقيم مع أي منطق عقلي . أين التحليل؟ وأين تجزئة المشكلة إلى عدد من القضايا الجزئية التي تتكون منها؟ ما أصدق تطبيق المثل العربي عليه "رمتني بدائها وانسلت"!فما يرتكبه هو من الخروج عن منهجه المعرفة الصحيحة والمناقشة السليمة ، يقذفه على أنصار الحق الذين يعلنون مفاهيمهم على الجماهير ، بالأساليب التي تفهمها هذه الجماهير ، إذ ليس باستطاعة الجماهير أن تشارك في مناقشة القضايا الجزئية مناقشة البحث العلمي ، وإنما تُطلب من الباحثين تقديم نتائج بحوثهم .

          لكن العجب كل العجب أن يأتي الناقد (د. العظم) ومن هو على شاكلته فيتصدى للجدل النقدي ، ثم لا يجادل إلا من مواقع الانحراف الخطير عن المنهج الذي يدعو خصومه لالتزامه ، ينهي خصومه عن مستوى التعميمات الخطابية ، ويستخدم تعميمات المغالطة!!! يطالب بالتحليل الدقيق للمشكلة وبتقسيمها إلى عدد من القضايا الجزئية التي تتكون منها ، ثم يأتي هو إلى قضايا متعددة في أصلها ، فيضمها في قضية واحدة ويصدر عليها حكماً واحداً . يطالب بالتزام قواعد ديكارت التي أصبحت في نطره أموراً بدائية وفجة جداً في عرنا ، ثم يرمي في مناقشاته بكل قواعد ديكارت وبكل القواعد المنطقية رمي النواة ، فلا يلتزم شيئاً ، ولا يأخذ بأي واجب من واجباتها ، ويتظاهر مع كل ذلك بالغيرة على الحقيقة والأمانة العلمية ، أهذه هي الأمانة العلمية لديه؟ أفلا يكون منسجماً مع نفسه ومع قواعد البحث العلمي السليم ، قبل أن يدعو خصومه لالتزام قواعد البحث العلمي السليم ، على أنهم في أغلب أحوالهم ملتزمون ، وحينما يبصرون بالخطأ يتراجعون .

 

          أيها الملحدون لا تلبسوا أثواب العلم فإن العلم الصحيح لن ينصر إلحادكم وكفركم بخالقكم وإنكاركم لليوم الآخر ، وإنكاركم لنشأتكم الأولى ، وجحودكم لمصدر وجودكم ، واستهانتكم بمسؤولياتكم في حياتكم الدنيا ، إن العلم الحق نصير لقضية الإيمان لا لقضية الكفر ، وأما الفرضيات التي تعتمدون عليها فأبعدوها عن مستوى الحقائق العلمية ، ولا تحشروها فيها كذباً وزوراً وبهتاناً ، إن العلم الحق سيطردها من قصره مهما حاولتم إدخالها فيه .

 

          أيها الملحدون لا تصطنعوا الضجيج للإيهام بوجود النزاع بين الإسلام والعلم فالواقع الحق لا يؤيدكم .

 

 

          يقول الناقد (د. العظم) في الصفحة (36) من كتابه ما يلي:

          "يشدِّد القائلون بالتوافق التام بين الإسلام والعلم على أن الإسلام دين خال من الخرافات والأساطير ؛ باعتبار أنه هو والعلم واحد في النهاية . لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة بإحالته إلى مسألة محددة تماماً . جاء في القرآن مثلاً: أن الله خلق آدم منطين ، ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس ؛ مما دعا الله إلى طرده من الجنة . هل تشكله هذه القصة أسطورة أم لا؟ نريد جواباً محدداً وحاسماً من الموفقين وليس خطابة . هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلاً في تاريخ الكون؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقاً تماماً وتنطبق على واقع الكون وتاريخه فلا بد من القول : إنها تتناقض تناقضاً صريحاً مع كل معارفنا العلمية ، ولا مهرب عندئذٍ من الاستنتاج بأن العلم الحديث على ضلال في هذه القضية ، وإن لم تنطبق القصة القرآنية على الواقع فماذا تكون إذن (في نظر الموفقين) إن لم تكن أسطورة جميلة؟".

 

          يا عجباً كل العجب ، وهل كل معارفه العلمية منحصرة في الفرضية الداروينية ، المناقضة للحقيقة الدينية التي قص الله علينا قصتها وفق علمه ، حتى يقول : لا بد من القول : بأنها تتناقض تناقضاً صريحاً مع كل معارفنا العلمية؟

 

          لكننا نقول له : إن الحق ما قصهُ الله علينا في كتابه ، ولو تناقض مع الفرضية الداروينية ، وليس هذا تناقضاً بين الدين والعلم وإنما هو تناقض بين الحق الديني وبين ما نسب إلى العلم ، وهذا لا يؤثر في جوهر الموضوع .

 

          فالداروينية ليست حقيقة علمية بشهادة العلماء أنفسهم ، لأنها لا تملك أدلة إثبات يقينية فيما يتعلق بتاريخ الإنسان ونشأته الأولى ، ولأن العلم لا يملك أدلة تنفي وجود الجن والملائكة .

 

          وباستطاعتنا أن نعكس السؤال عليه فنقول له : هل باستطاعة العلم المادي الحديث أن يقدم لنا أدلة يقينية قاطعة تثبت ما يدعيه حول نشأة الإنسان الأولى وتاريخه؟ إن ما يقولونه هو مجرد احتمال افتراضي لو لم يقولوا به لما وجدوا أمامهم إلا ما يقرره الدين من قضية الخلق الرباني ، وهذا ما يتهرب الماديون الملحدون منه من غير دليل . حتى كتب (سير آرثر كيث) يقول:

 

          "إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علمياً ، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان ، ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر ، وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه"[1].

 

          لماذا لا يمكن قبوله من وجهة نظره ولا التفكير فيه؟

 

          لأنه اتخذ لنفسه الإلحاد مذهباً ، فهو لا يريد أن ينقض مذهبه ، تعصباً له وإنكاراً للحقيقة الإلهية . وهكذا سائر الملحدين .

 

          إذا حققنا في الأمر وجدنا أن الخرافة والأسطورة تتمثل في بعض المواقف من النظرية الداروينية ، وهي المواقف التي تتناقض مع صريح ما جاء في القرآن عن خلق آدم ، لأن الفرضية الداروينية في هذه المواقف لا تملك أي دليل غير مجرد الاحتمال الافتراضي ، وهذا لا يقدم أية حقيقة علمية .

 

          فادعاؤه التناقض بين الدين والحقائق العلمية في هذه القضية الخاصة ادعاء مخالف لكل القواعد المنطقية والأسس العلمية ، ألا فليراجع مفاهيمه مراجعة منطقية قبل أن يتصدى لعمليات نقد كبرى .

 

          ثم قال بعد أن عرض هذه المسألة المحددة كما زعم:

          "هل يفترض في المسلم في هذا العصر أن يعتقد بوجود كائنات مثل الجن والملائكة وإبليس ، وهاروت وماروت ، ويأجوج ومأجوج ، وجوداً حقيقياً غير مرئي باعتبارها مذكورة كلها في القرآن ، أم يحق له أن يعتبرها كائنات أسطورية ، مثلها مثل آلهة اليونانية وعروس البحر والغول والعنقاء؟ يا حبذا لو عالج الموفقون بين الإسلام والعلم مثل هذه القضايا المحددة وأعطونا رأيهم فيها بصراحة ووضوح بدلاً من الخطابة حول الانسجام الكامل بين العلم والإسلام".

 

          يا سبحان الله!! يبدو أن الناقد (د. العظم) عالي الثقافة؟! فهولا يفقه معظم هذه الأسماء التي يغري أبناء المسلمين بأن يجحدوها ، عن طريق تساؤلاته الاستنكارية ، والظاهر أنه أخذها عن مكتوبات الماركسيين غير المسلمين ، ونقلها نقلاً ببغاوياً بالترجمة الحرفية ، دون أن يرجع إلى المصادر الإسلامية ويعرف دلالاتها منها ، ففي إيراده لهاروت وماروت ويأجوج ومأجوج على أنها كائنات غير مرئية كالجن والملائكة وإبليس جهل فاضح جداً ، فمن هذا الذي قال : إن هاروت وماروت ويأجوج ومأجوج مخلوقات غير مرئية كالجن والملائكة؟

 

          إن التخبط الفكري عند الملاحدة الذين يتصدون لمعارضة الحقائق الإلهية يجعلهم يرتكسون ارتكاساً فكرياً شائناً جداً ، ومن شأن الباطل أن يتخلى عن أنصاره ، ويسبب لهم الهزيمة الفكرية الفاضحة ، والحق لابد أن يعلو عليهم ويجعلهم هم وباطلهم زاهقين .

 

          نحن نعلم أن يأجوج ومأجوج[2] من القبائل البشرية الجاهلة المفسدة في الأرض ، وهم من سكان الشرق الأقصى وراء سد الصين . وكان سكان غرب الصين قد اشتكوا أمر إغارة قبائل يأجوج ومأجوج عليهم لذي القرنين ، الفاتح المؤمن العادل ، وطلبوا منه أن يقيم بينهم وبين قبائل يأجوج ومأجوج المفسدة في الأرض سداً عظيماً ، يحجز عن سكان غرب الصين غارات سكان شرقها ، مقابل خَرج يدفعونه له ، فوافق ذو القرنين على ذلك ، وطلب منهم أن يعينوه على ذلك بقوة رجالهم الكثيرين ، وبالمواد الموجودة في بلادهم ، وفعلاً أقام ذو القرنين لذلك السد العظيم , وحجز قبائل يأجوج ومأجوج ، وتعذر عليهم الظهور عليه واستئناف غارات الإفساد التي كانوا يغيرونها .

 

          فما علاقة هذه القبائل البشرية التاريخية بالغيبيات وبالكائنات غير المرئية؟.

 

          لو أنه قرأ سورة (الكهف) أو سمعها من المذياع ، أو لم يرد التضليل الديماغوجي لما سقط في هذه الفضيحة التي تعبر عن جهل كبير ، في موضوع يتصدى لنقده ومهاجمته ، بغية التبشير بمذهبه الإلحادي الكافر بكل القيم .

 

          أو لعله استغرب اسمي يأجوج ومأجوج فاعتبرهما كائنات غير مرئية كالجن والملائكة؟ إذا كان الأمر كذلك فالأسماء الغريبة عليه كثيرة في عالم الناس ، وفي عالم العلم ، فليجعلها كلها أسماء لكائنات غيبية غير مرئية كالجن والملائكة .

 

          ولكن هكذا يخبط خبط عشواء ، ويخلط خلط عمياء ، دون الرجوع إلى مصادر الدين الإسلامي ومعرفة المراد منها؟

 

          أهذه هي القواعد المنهجية في التمحيص والتفكير العلمي التي يطالب المؤمنين بها؟

 

          إذا كانت هذه هي قواعده فهيهات أن يصل إلى أية حقيقة من الحقائق ، وعليه أن يرتطم دائماً في حفر الجهالة والضلالة ، وما دام هذا مستواه فلا بد أن يسقط في حبائل المؤسسات الإلحادية في العالم ، وهي المؤسسات التي ترعاها وتديرها من وراء الأستار اليهودية العالمية ، لغاية في نفوس اليهود يريدون تحقيقها في شعوب الأرض .

 

          ونظير سقوطه في مسألة يأجوج ومأجوج في حفر الجهل الفاضح سقوطه أيضاً في مسألة هاروت وماروت.

 

          إن هاروت وماروت اسمان لشخصين وجدا قديماً في بابل ، وكانا على صورة آدمين يخاطبان الناس ، ويعلمانهم السحر الذي علمهما الله إياه ، ويأمران الناس بأن لا يكفروا بالله عن طريق تعلمهم السحر ، وعنهما توارث الناس علم السحر ، وقد أخبرنا الله في القرآن أنهما في حقيقة حالهما ملكان ظهرا على صورة آدميين ، على أن في كونهما ملكين وفي تعليمهما الناس السحر خلافاً عن المفسرين ، ومهما يكن من أمر فليسا كما زعم (العظم) نقلاً عن كتب الماركسيين أنهما من الكائنات غير المرئية ، بل كانا شخصيتين مرئيتين ،وكانت لهما قصة مشهورة في تاريخ الناس ، وتوارث الناس عنهما أو عن غيرهما علماً ما زالت له رواسب معروفة عند بعض المخصصين بعلم السحر ، وإذا كان يجهل ذلك فليسأل سحرة اليهود فإنهم يخبرونهم .

 

          وقد تعرض القرآن لقصتهما في معرض الكلام على بني إسرائيل في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول): فقال تعالى :

          {وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ

[1] اقتباساً من كتاب "الإسلام يتحدى".

[2] (يا غوغا ماغوغا) من القبائل المعروفة عند مؤرخي بلاد الصين.

يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}

 

          وهكذا ظهر لنا جهل (د. العظم) الفاضح في المسألة الثانية التي يردد ألفاظها ، وهو لا يعلم مضمونها ، ثم يتصدى لنقدها وفق تصور خيالي لديه .

 

          أما تساؤلها عن الملائكة والجن وإبليس فهذه فعلاً كائنات غير مرئية بالنسبة إلى مستواك إدراك الناس ، والملحد بالله وبالدين وبالأخبار الواردة في الدين الحق ينكر هذه الكائنات لأن العلم الحديث لا يملك حتى الآن أدلة إثبات لها .

 

          ولكن هل استقصى العلم المادي الحديث كل ما في الوجود من كائنات وأسرار ، حتى يدعي نفي وجود ما لم يشاهده بوسائله؟

 

          لو كان الأمر كذلك لكان على العلماء الباحثين أن يتوقفوا عن متابعة البحث ، الذي يضنون أنفسهم فيه لاكتشاف مجاهيل من الطاقات والكائنات الكونية التي يدركون أنهم ما يزالون يجهلونها ، لكنَّ هذا لا يدعيه عالم يقدر العلم ويحترم نفسه .

 

          إن العلوم الحديثة لا تملك حتى الآن أي دليل تستطيع أن تنفي به وجود الجن أو الملائكة ، بيد أن كثيراً من التجارب الإنسانية تثبت وجود كائنات خفية روحية غير مدركة بالحس ، وغير مدركة بالأجهزة العلمية ، على أن إنكار المنكرين لها لا يؤثر على وجودها شيئاً ، كما أن إنكار المنكرين لعالم الجراثيم والميكروبات المرئية وغير المرئية لا يؤثر على وجودها في العالم شيئاً .

 

          إن دليل المؤمنين على وجود الملائكة ، ووجود الجن مؤمنيهم وكافريهم وشياطينهم ومردته أخبار صادقة جاءت عن الله ، بطريق الوحي ، وبلَّغها الرسل الصادقون المؤيدون بالمعجزات ، كما شاهدوهم واتصلوا بهم بتجاربهم الخاصة ، فالمؤمنون بهم إنما يؤمنون تصديقاً لخبر الله الصادق ، ولأخبار الرسل الصادقين ، والقضية من أساسها تقع في دائرة الممكنات العقلية لا المستحيلات ، فالعمدة فيها الخبر الصادق ، على أن للناس تجارب كثيرة من هذا القبيل ، ولكن هذه التجارب ليست هي عمدة المؤمنين ، لأنها لم تصل إلى مستوى البرهان العلمي .

 

 

          يقول الناقد (د. العظم) في الصفحة (39) والتي تليها من كتابه:

 

          "من الآيات القرآنية التي يحب الموفقون ترديدها في معرض كلامهم عن انسجام الإسلام والعلم الحديث : الوصف القرآني التالي لأصل الإنسان وتكوينه : {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة * فخلقنا العلقة مضغة * فخلقنا المضغة عظاماً * فكسونا العظام لحماً * ثم أنشأناه خلقاً آخر * فتبارك الله أحسن الخالقين}".

[سورة المؤمنون: الآيات 12 -14]

 

          ثم قال تعليقاً على هذا النص القرآني ما يلي:

          "من الجلي أن عملية نمو الخلية البشرية بالنسبة إلى هذا الوصف القرآني تعتمد على التدخل المباشر والمستمر من قبل الله لنقلها من طور آخر ، أي إن نقلها من نطفة إلى علقة يحتاج إلى عملية خلق جديدة ، كما أن نقلها من طور العلقة إلى طور المضغة يحتاج كذلك إلى عملية خلق أخرى ...إلخ .

 

          وخلاصة القول هو أن نمو الخلية البشرية يشكل معجزة إلهية لا تعليل لها سوى قدرته المطلقة على الخلق ، وتدخله المباشر في سير أمور الكون . هل يتفق هذا الوصف والتعليل مع معارفنا العلمية عن الموضوع ، ومع ما يبينه لنا علم الأجنَّة حول تطور الخلية البشرية في مراحلها الأولى ؟ الجواب حتماً بالنفي ، لأن علم الأجنة لا يدع مجالاً للشك في أن الخلية تنمو بالتطور العضوي من طور إلى آخر ، وفقاً لقوانين طبيعية معينة ، بحيث تنمو المرحلة المتأخرة من صلب المرحلة السابقة عليها ، وعلى أساس معيطاتها الأولية ، كل ذلك بصورة تسمح لنا بالتنبؤ بتطور الخلية ، وبالمراحل المستقبلة التي ستمر بها ، وتمكننا من التحكم بنموها ، بحيث نستطيع تأخيره أو إسراعه أو تشويهه (إن شئنا ذلك) بتعريضها لمواد كيماوية معينة ، أو لأنواع محددة من الأشعة ، وكم كنت أود لو لم يكتفِ الموفقون الدينيون العمليون بمجرد الاستشهاد بالوصف القرآني لنمو الخلية ، وتعدوا ذلك لإيضاح رأيهم في كيفية انسجام هذا الوصف ، مع معارفنا العلمية الثابتة عن هذه الظاهرة الطبيعية".

 

          يبدو أن سيادة الناقد ومعه سائر الملحدين الماديين محرومون من منطق التطور العلمي الذي يمكن أن يهدم جميع قواعد إلحادهم ، ومحرومون أيضاً من المنطق العقلاني المتجرد الباحث عن الحقيقة .

 

          فحينما يكتشف العلماء ارتباط الظواهر الطبيعية بأسبابها الطبيعية التي تحتاج هي أيضاً إلى تفسير ، فهل يعني هذا إلغاء حقيقة الخلق الرباني الكامن وراء الأسباب الطبيعية؟ وحينما يقرر القرآن أن لله تبارك وتعالى هو الذي يخلق الأحداث الكونية ، فهل معنى ذلك أن عملية الخلق تأتي بشكل مباشر ، دون توسط قوانين وعلل وأسباب أوجدها الله في نظام الطبيعة ، واختار أن يكون أسلوبه في عملية الخلق كذلك . إن من يرفع الشيء بيده مباشرة يقال عنه : قد رفعه ، ومن يرفعه بوساطة حبل يقال : قد رفعه ، ومن يرفعه بوساطة سبب غير مرئي كقوة كهربائية أو مغناطيسية يقال : قد رفعه ، والخلق يكون بشكل مباشر ، ويكون عن طريق القوانين والأسباب والعلل غير الفاعلة بذاتها .

 

          فكلام (العظم) القائم على تصور أن النص القرآني لا يعترف بنظام الأسباب والعلل والقونين الطبيعية كلام فاسد من الوجهة العقلية البحتة ، لأن الخلق لا يقتضي دائماً أن يكون عملية مباشرة ، دون أن توجد أسباب اختارها الخالق ليتم عن طريقها أسلوبه في الخلق .

 

          فليكتشف الباحثون ما شاءوا أن يكتشفوه من قوانين وعلل طبيعية وأسباب ، فإن هذه كلها لا تملك الفعل الذاتي ، وهي بحد ذاتها تحتاج إلى تفسير ، والخالق العظيم القادر العليم الحكيم هو القوة الحقيقية الكامنة وراء جميع الأحداث الطبيعية ، وإن أراد الملاحدة الماديون الوقوف عند الأسباب ، وإقفال عيونهم عما وراء الأسباب التي اكتشفوها ، وإن أرادوا جحود الخالق العظيم .

 

          وبهذا يظهر لنا ما في كلامه من مغالطة وتضليل وتفسير غير صحيح للنص القرآني ، وهذا من وجهة نظر المنطق العقلاني المجرد .

 

          ثم نقول من ناحية أخرى : لقد توصل العلم الحديث إلى أن القوانين العلمية لا تملك التفسير الكامل للأحداث الكونية ، وإنما تكشف عن حلقة من الحلقات السببية لا غير ، وهي بحد ذاتها بحاجة إلى تفسير .

 

          يقول العلامة الفلكي الرياضي البريطاني السير (جيمس جينز) كلاماً يعلن فيه هذه الحقيقة ، وهذه مقتطفات من أقواله:

 

          "إن الكون كون فكري . الكون لا يقبل التفسير المادي في ضوء علم الطبيعة الجديدة ، وسببه – في نظري – أن التفسير المادي قد أصبح الآن فكرة ذهنية .

 

          من الصحيح أن نهر العلم قد تحول إلى مجرى جديد في الأعوام الأخيرة ...

 

          لقد كنا نظن قبل ثلاثين سنة – ونحن ننظر إلى الكون – أننا أمام حقيقة من النوع الميكانيكي .

          إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم ، تلك التي كنا أقمناها على عجل . لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة".

 

          ألا فليعد (العظم) دراسته ، وليراجع أفكاره وفق ما تطور إليه العلم الحديث ، وحسبه تجديفاً في المستنقعات النتنة القذرة .

 

          أما قوله : "إن نمو الخلية يخضع لقوانين تمكننا من التحكم بنموها ، بتأخيره أو إسراعه أو تشويهه" فهو لا يتعارض بحال من الأحوال مع العقيدة الإيمانية ، لأننا جميعاً في حياتنا على وجه الأرض لا في عالم الأجنة نخضع لقوانين ربانية تمكننا من التحكم بعض الشيء بنمو أجسادنا أو تشويهها أو إتلافها ، نظير تحكمنا بالأجنة ، والإنسان القديم يعلم هذا كل العلم ، ولا يجد فيه معارضة لنظام الخلق الرباني ولا لقاعدته العامة . فالمؤمن يعلم أن لكل ظاهرة سبباً يخضع لسنَّة الله في كونه ، ويعلم أن الخلاق الحقيقي من وراء الأسباب هو الله تعالى ، إن القضية في نظره تشبه عملية إدارة زر الكهرباء التي يضيء المصباحُ بسببها ، ولكن السبب الحقيقي في الإضاءة هي القوة الكهرباء التي يضيء المصباحُ بسببها ، ولكن السبب الحقيقي في الإضاءة هي القوة الكهربائية السارية ، ومن ورائها المولد الكهربائي ، ومن ورائه صانع هذا المولد ومديره ، ولو شاء لقطع التيار الكهربائي من عنده فلم يكن لإدارة الزر الكهربائي الفرعي أي أثر ، ولانعدمت بذلك كل الظواهر ، ولم يكن للأسباب الوسيطة أية قيمة .

 

          هذا هو منطق المؤمنين ، وذلك هو سخف الملحدين .

 

 

          من العجيب أن نجد الناقد (د. العظم) ينكر على الباحثين الإسلاميين دعوتهم المسلمين إلى الأخذ بأسباب العلم في كل مجال من مجالات المعرفة ، ويرى أن الإسلام يدعو فقط إلى تعلم علوم الدين ،أما العلوم الأخرى فإنه لا يهتم بها ولا يشجع عليها ، ويرى أن الذين يقولون: إن الإسلام يحث على تعلم كل العلوم النافعة موفقون خطابيون ، يحاولون أن يثبتوا الانسجام بين الإسلام والعلم بوسائلهم الخطابية ، دون براهين صحيحة ، ثم يزعم أن كل النصوص الإسلامية التي دعت إلى العلم والعقل والتفكر موجهة فقط إلى العلوم الدينية والشرعية وما يتعلق بها ويتفرع عنها ، لا إلى الفيزياء والكيمياء وغيرهما من العلوم الطبيعية.

 

          يقول في الصفحة (40) والتي بعدها من كتابه:

 

          "من الأقوال التي يرددها الموفقون الخطابيون لإثبات دعواهم الحديث النبوي القائل : "اطلب العلم ولو في الصين" والآيات القرآنية العديدة التي تحث الإنسان على التعقل والتأمل في الأشياء وطلب العلم والمعرفة ، إلى آخره مما هو معروف ، كل ذلك ليبينوا مدى اهتمام الإسلام بالعلم والعقل منذ القدم .بطبيعة الحال يعطي هؤلاء المفكرون معنى مطلقاً لهذه العبارات الإسلامية ، وكأنها لا تنتمي إلى أي زمان ومكان ، منفصلة عن الظروف التاريخية التي قيلت فيها ، والمناسبات التي حددت معناها ومغزاها وقتئذٍ . من ضمن هذا الاعتبار يتضح لنا أن العلم الذي حث على طلبه الإسلام هو في جوهره العلوم الدينية والشرعية وما يتعلق بها ويتفرع عنها ، وليس الفيزياء والكيمياء مثلاً (راجع كتاب العلم في الجزء الأول من "إحياء علوم الدين")، والعقل الذي طلب الإسلام من الإنسان استخدامه كان الغرض منه التوصل إلى معرفة الله من تأمل صنعته وخلقته ، كما فعل حي بن يقظان في قصة ابن طفيل ، وليس الغرض منه صياغة نظرية المادية الجدلية ، أو نظرية دوركهايم في الطقوس والعبادات الدينية ، أو نظرية الكون المحدب".

 

          لست أدري أي شيء يزعجه إذا كان الإسلام فعلاً يحث على تعلم كل العلوم الدينية والطبيعية والعقلية؟

 

          لكن يبدو أن هذه الحقيقة تؤثر جذرياً على دعوة الإلحاد التي تحاول أن تتخذ من العلم دريئة لها ، وتحاول أن تقنع الأجيال بأن الدين والحقائق العلمية على طرفي نقيض ، لتصرفهم عن الدين وتضمهم إلى جيوش الملحدين ،يضاف إلى ذلك أن الملحدين يخشون أيضاً من دخول الإسلام والمسلمين إلى معاقل العلم الصحيح ، لأن هذا الدخول يشكل خطراً حقيقياً على قضية الإلحاد من أساسها ، إذ يكشف الباحثون المسلمون عن طريق العلم الصحيح زيف المادية الإلحادية التي تتستر بالعلم ، وتزييف ما يستطيع تزييفه لدعم مذهبها الذي ليس له سند صحيح من علم صحيح ، ولا من واقع مشهود .

 

          وفي مناقشة كلامه القائم على المغالطة التضليلية نقول:

          أما كون الإسلام قد جعل أشرف العلوم ما يصلح حياة الإنسان ويقوِّم سلوكه ، ويقصره على طريق الخير مبتعداً عن طريق الشر لاغتنام أعظم قدر يستطاع اغتنامه من سعادة الحياة الدنيا ، وما يُعدُّه أحسن إعداد لسعادة الحياة الأخرى ، فهذا حق .

 

          وأما كون الإسلام لم يحث على تعلم العلوم الطبيعية المادية ، التي من شأنها أن تحقق المنافع الحسنة للناس ، وتخدم قضايا الرفاهية والجمال والقوة والراحة واختصار الزمن وتنظيم الحياة ، فهذا باطل .

 

          فمنذ النهضة الفقهية عند علماء المسلمين قرر الفقهاء أنه يجب على جماعة المسلمين تعلم جميع العلوم النافعة للناس ، بما في ذلك العلوم الصناعية ،فضلاً عن العلوم الضرورية كالطب والزراعة ، والعلوم المتصلة بإعداد المستطاع من القوة ، وقرروا أن هذا واجب على الكفاية ، تقع فيه المسؤولية على جماعة المسلمين عامة ، فإذا قام به البعض سقط الطلب عن الباقين ، وإذا لم يقوموا به أثموا جميعاً ، واستنبطوا حكمهم هذا من مصادر التشريع الإسلامي ، ونصوصه الرئيسية ، والإمام الغزالي من الذين قالوا بهذا وقرروه على خلاف ما أوحى به (العظم) إذ قال في غضون ما غالط به : (راجع كتاب العلم في الجزء الأول من "إحياء علوم الدين"، للإمام الغزالي).

 

          فدعوى (العظم) باطلة في نظر فقهاء المسلمين ، والإمام الغزالي في الإحياء قد وجه إلى أشرف العلوم ، ولم يقل : إن طلب العلم الذي حثَّ عليه الإسلام منحصر في العلوم الدينية والشرعية ، والغزالي نفسه تتبع معظم العلوم المعروفة في عصره فدرسها ، وكتب في كثير منها ، وواقع حال علماء المسلمين في عصورهم الأولى يكذِّب هذه الدعوى التي طرحها ، فقد كانوا بحق طلائع النهضة العلمية الحضارية ، بشهادة أساطين علماء الحضارة الحديثة ، وما أظن (العظم) أكثر فهماً منهم لنصوص الإسلام وما يستنبط منها من أحكام دينية ومفاهيم إسلامية!!.

 

          أما كون دراسة مختلف العلوم الطبيعية هادية لهم إلى معرفة الله وعظيم قدرته وبديع صنعته فهو يمثل النظر البعيد إلى آخر حلقة في سلسلة المعارف الطبيعية ، ولكن هذا النظر البعيد يجعلهم يتابعون حلقات السلسلة حتى غايتها ، ضمن حدود الاستطاعة الإنسانية التي تتهيأ لهم ، وليس من شأنه أن يقف بهم عند الحلقات الأولى ، لأن الإسلام يحثهم على المتابعة والنظر في كل مراحل الطريق ، وبذلك يستطيعون استخراج كل ما ينفع من حقائق علمية .

 

          ومعلوم أن الإسلام يحرص دائماً على الربط بين العلم والإيمان ، بين العلم والغاية المثلى منه ،كما يحرص على الربط بين الدنيا والآخرة ، بين العمل وغاية الخير منه ، بين اللذة والمنعم بها وغاية الخير من ورائها ،وبذلك يظهر كمال الإنسان .

 

          ولست الآن في صدد إيراد النصوص الدينية ، التي تثبت أن الإسلام يدفعنا بقوة إلى البحث العلمي في الكون ، للتعرف على كل حقيقة علمية ، لذلك أكتفي بعرض طائفة يسيرة منها .

 

          ( أ ) قال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

          {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ...}.

 

          (ب) وقال في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول):

          {ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً منْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

 

          ( ج ) وقال في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول):

          {وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}.

 

          أليس في هذه النصوص دعوة إلى التعرف على خصائص الأشياء للانتفاع منها؟ وهل يمكن التعرف على خصائصها إلا بالبحث العملي ، عن طريق الملاحظة والتجربة والاستنباط وكل الوسائل التي تتيسر للإنسان؟[1]

 

          ولكن الملحدون يريدون أن يخترعوا للإسلام صورة من عند أنفسهم ، لينفروا الناس منه ، وليشوهوا جماله وكماله وتقدميته الرائعة ، ولن يظفروا .

 

[1] انظر لاستكمال هذا الموضوع كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" ، للمؤلف .

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة