حول المعجزات

حول المعجزات

من كتاب :

      صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

      تأليف

      عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

 

 

          أثار الناقد (العظم) أكثر من مرة موضوع المعجزات الربانية التي أجراها الله على أيدي رسله وأثبتتها الأديان السماوية ، بوصفها حادثات تاريخية جرت في تاريخ الكون ، وباعتبارها بعض مظاهر قدرة الله المخالفة بصفة استثنائية لمظاهر قدرته في سننه وقوانينه الدائمة .

 

          وزعم أن الحديث عن هذه المعجزات حديث لا يقبله العلم وأن العلماء الماديين لا يرتاحون من وجهة نظرهم إلى الآيات القرآنية التي تروي كيف شق موسى البحر بعصاه ، وكيف تحولت النار فجأة إلى برد وسلام على إبراهيم ، ونحو ذلك من معجزات ربانية .

 

          الواقع أن مشكلة (العظم) في هذا ومعه سائر الملحدين الماديين مرتبطة أساساً بقاعدة الإيمان الأولى ، وبما أنهم أنكروا الحقيقة الكبرى وهي حقيقة وجود الله فلا بد أن ينكروا كل ما يستند إليها وخرق قوانين الكون وسننه لا يتم إلا بقدرة الخالق الذي وضع هذه السنن والقوانين ، وبإراداته التي تقتضيها حكمته ، لكن الفرضية التي أقام الملحدون عليها عقيدتهم هي إنكار وجود الخالق ، واعتبار هذا الكون عملاً مادياً آلياً أنتجته الصدفة التي لا تفسير لها ، ولذلك فهم يرون قصة المعجزات المخالفة لنظام الكون وقوانينه الثابتة من قبيل الأساطير ، وليست من قبيل الحقائق التاريخية الثابتة.

 

          لأجل هذا فإن معالجتنا لهم يجب أن تبدأ من مستوى القاعدة الإيمانية الأولى ، وهي الإيمان بالله وبكمال صفاته ، وبقدرته على خلق ما يشاء ، وبقدرته على خرق السنن التي جعلها هو ثابتة في كونه ، ولو أنه شاء أن يجعلها على خلاف ذلك لجعلها ، ولكن أسلوبه في الخلق كان على هذا الوضع القائم على نظام الترابط السببي بين الأشياء ، وبين الأحداث والتغيرات فيها .

 

          وهنا تكمن فضيلة الإيمان بالغيب القائم على الاستدلال العقلي ، والانتقال من السبب الذي لا يملك تعليلاً عقلياً ، إلى مسبب الأسباب كلها الذي تنحصر فيه كل التعليلات العقلية الصحيحة ، والمفسرة لكل الظواهر الكونية ، بعد تجاوز سلسلة الأسباب مهما كثرت حلقاتها .

 

          وهنا أيضاً تكمن رذيلة جحود الحقيقة الغيبية الكبرى ، لأن هذا الجحود القائم على طرح الأدلة العقلية الاستدلالية والأدلة الفطرية الوجدانية ، والتشبث ببعض حلقات السلسلة السببية ، مع أنها لا تملك في الحقيقة أي دليل يصح أن تفسر به الظاهرة الكونية ، إلا أن الملاحظة كشفت عن ارتباط الظاهرة الكونية بها ، كارتباط رأس الحمار بسلسلة رسنه المعقود بذيل آخر جمل في قافلة طويلة تسير في ليل دامس ، والغبي أو الأحمق أو المعاند المكابر هو الذي يقف تفكيره عند رأس الحمار ، أو عند بعض حلقات السلسلة التي في رسنه ، أو عند ذيل البعير .

 

          فالنقاش المنطقي حول هذه النطقة يدعونا إلى الرجوع إلى قضية الإيمان بالله ، وقد سبق أن عالجناها ببيان كاف فإليها نحيل القارئ .

 

          على أننا نقول هنا : إن الملحدين قد جعلوا معجزة الخلق كلها ظاهرة طبيعية ، وقطعوا الصلة بينها وبين الخالق ، أفيقبلون فكرة خرق قوانين الكون وسننه بفعل الخالق لحكمة يريدها ، وقد رفضوا الاعتراف بوجود خالق أصلاً؟

 

          ونقول أيضاً : باستطاعتنا أن نناقش قضية المعجزات مناقشة عقلية وعلمية ، لإثبات خطأ الملحدين في رفضها بوصفها ظاهرة من الظواهر التي جرت أحداثها في تاريخ الكون ، مهما يكن تفسيرهم للظواهر الكونية خاضعاً لقواعد الفكر المادي .

 

          إن إنكار الأحداث التي جرت فعلاً في تاريخ الكون لا يسوغ من وجهة نظر العلم أو من وجهة نظر العقل لمجرد كونها مخالفة في مفاهيمنا للقوانين التي استخرجناها من مشاهدات الطبيعة وأحداثها ، وإنما يجب بعد ثبوتها في الواقع محاولة استنباط تفسير وتعليل لها . أما مجرد الرفض والإنكار فليس عملاً علمياً ولا عقلياً .

 

          إن كل ما نشاهده في الكون من أحداث وظواهر لو دققنا النظر فيه ورفعنا عنه ستار الرؤية المتكررة له لكان في مفاهيم العقلاء معجزة من المعجزات ، وعجيبة من العجائب ، ولكن تكرر الرؤية له جعله أمراً معتاداً ، واتخذ في مفاهيمنا صفة قوانين طبيعية ، وسنن لا غرابة فيها ، وذلك لأنه ليس بين معظم الأحداث والظواهر الطبيعية وبين أسبابها وقوانينها روابط عقلية ، وحينما ندرس أنظمتها كما هي في الواقع ، ولا نستطيع أن نجد في العقل مقتضيات لها ، غير أن نظام الكون سار على هذا الأسلوب ، وكان من الممكن عقلاً أ، يسير على أسلوب آخر ضمن سُلَّم احتمالات لا نهاية لها ، وتخصيص هذا النظام دون غيره ليس أمراً يقتضيه العقل .

 

          ولو كان نظام الكون سائراً في متكرر العادة على أن الصخور متى نضجت في أشهر معينة ، وبطرق معينة ، تحوَّلت نوقاً وأبقاراً وزرافات وشياهاً بحسب اختلاف أنواع الصخور ، لكان ذلك هو السنَّة الثابتة في نظرنا ، ولكان خلاف ذلك هو المعجزة .

 

          ولو كان نظام الكون سائراً في متكرر العادة على أن الماء يجري من أسفل الوادي إلى أعلى الجبل بنفسه ، من غير أن تكون له حافات تسنده ، ولا روافع ترفعه ، لكان ذلك هو قانون الماء الثابت في نظرنا ، ولكان خلاف ذلك هو المعجزة التي يتشكك بها ويطلب إثابتها بالدليل .

 

          وهذا الإمكان التصوري يدلنا على أن النظام الحالي ليس نظاماً فرضته الضرورة العقلية ، والارتباطات الفكرية ، ولكن أوجدته السلطات ذات الإرادة المختارة ، ومهما يكن من أمر فإن الإمكان العقلي الذي لا يرى مانعاً من قبول نظام آخر لو كان هو السائد في نظام الطبيعة ، هو نفسه دليل كافٍ عل أنه ليس بين القوانين الطبيعية وأحداثها الظاهرة ارتباط عقلي يوجبها وحدها ، ولا يسمح بمخالفتها ، فقبول احتمال التغيير لا يتوقف إلا على ثبات وقوع الحادثة التي كان التغيير فيها ، وإلا كان رفضاً للإمكان العقلي بدون سند من العقل ، ورفضاً للواقع بدون سند من الواقع .

 

          لو أخذنا منطق الأحياء البحرية لكانت الحياة بنظام غير نظامها معجزة من المعجزات ، ولو أخذنا معتاد الحياة الأرضية لكانت الحياة بغير إمداد بالنظام الغذائي المعروف أمراً من المعجزات ، مع أنه ليس في أي شيء من ذلك ارتباط عقلي يوجه العقل ، ولكن هذا هو الأسلوب الذي جرى عليه نظام الكون ، ولو جرى أسلوب الكون على غير هذا النظام لما وجد العقل مانعاً من ذلك ، ولما وجد أنه يتنافى مع أي أصل عقلي منطقي أو رياضي ، وهذا البرهان يثبت لنا أن رفض المعجزات بدليل من واقع القوانين والسنن الطبيعية رفض فاسد عقلياً وعلمياً ، ولا سند له ، وتبقى قضية المعجزات من وجهة نظر العلم والعقل احتمالاً إمكانياً بالإمكان العقلي ، ولكنه لا يسلم به واقعياً إلا أن يقترن بأدلة إثبات يقبلها العلم والعقل .

 

          وأدلة الإثبات في هذا المجال منحصرة في الأدلة الحسية والأدلة الخبرية .

 

          وقد توافر للذين عاصروا الرسالات دليل المشاهدة الحسية لمعجزات الرسل ، فكان ذلك بالنسبة إليهم برهاناً حسياً ، وأما بالنسبة إلى غيرهم فعمدتهم في إثبات المعجزات دليل الأخبار الإنسانية المتواترة عند جميع أمم الأديان السماوية ، وهذه الأخبار تقطع بوجود معجزات أو آيات من خوارق العادات قد أجراها الله على أيدي رسله ، منها معجزات إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، وكذلك سائر النبيين ، وجحود الأخبار المتواترة الصادقة مع وجود الإمكان العقلي ، ومع وجود المبرر العقلي لها ، ضرب من العناد الذي لا يفعله باحث عالم يدرس الظواهر ويحاول تفسيرها .

 

          والتفسير العلمي للمعجزات الربانية ظاهر فيما يوضحه للدين ، من أنها أدلة ربانية يصدِّق الله بها رسله فيما يبلغون عنه .

 

          ومن العجيب أن الملحدين الماديين يقبلون معجزات الطفرة الوحيدة التي تقول بها الداروينية ، ولا سند لها إلا الحدس والخيال ، ويرفضون المعجزات الربانية التي يجريها الله على أيدي رسله ، وهي معجزات ثابتة تاريخياً بشهادة الأخبار المتواترة المقطوع بها ، مضافاً إليها الشواهد العقلية والأثرية المؤيدة لها!!

 

          لكن هذا هو شأن الملحدين ، إنهم يتناقضون بين ما يقبلون وبين ما يرفضون ، تعصباً لإلحادهم ، ومعاندة لخالقهم ومكابرة على الباطل .

 

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة