« التطورات العلمية هي التي تتراجع في اتجاه المفاهيم الدينية »






التطورات العلمية هي التي تتراجع في اتجاه المفاهيم الدينية

من كتاب :

      صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

      تأليف

      عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

 

          زعم (د. العظم) في نقده للفكر الديني أن الدين في نزاعه مع العلم يضطر لأن يتنازل عن مواقعه بعد صراع شديد ، فقال في الصفحة (24) من كتابه:

 

          "إن محاولة طمس معالم النزاع بين الدين والعلم ليست إلا محاولة يائسة للدفاع عن الدين ، يلجأ إليها كلما اضطر الدين أن يتنازل عن موقع من مواقعه التقليدية ، أو كلما اضطر لأن ينسحب من مركز كان يشغله في السابق . إن نمط هذه العملية معروف جدا ً. إنها تبدأ بصدام شديد بين النظرة العلمية الجديدة حول موضوع ما ، وبين النظرة الدينية السائدة إلى الموضوع ذاته ، وبعد نزاع قد يستمر سنين طويلة تنتصر النظرة العلمية الجديدة ، وتسود بين كبار المفكرين ، وتنتشر بين الفئات المثقفة تماماً عندما يوشك العلم أن يتجاوزها إلى نظرة أفضل . عندئذٍ يقول أصحاب النظرة الدينية : إنه لم يكن من موجب لهذا النزاع أصلاً ، لأن الخلاف لم يكن بين جوهر الدين وروحه من جهة وبين العلم من جهة أخرى ، لذلك لا يضير الدين أن يتنازل للعلم عن أمور لا تمس روحه . ولكن الحق يقال : إن هذا النمط من التكفير يخبئ وراءه سلسلة طويلة من التراجعات الهامة والحاسمة ، اضطر إليها الدين عندما وقف وجهاً لوجه أمام العلم . بالرغم من هذا الكلام الجميل عن روح الدين وجوهره لم يتراجع الدين ولو مرة واحدة أمام العلم إلا بعد معركة ضارية ، أو تحت الضغط المتزايد للثقافة العلمية الحديثة ، أو تحت إلحاح الضرورات الحيوية للتكليف مع موجة العلمنة والتقدم التي تفرض نفسها على حياة المجتمعات في النهاية".

          لنا حول هذا الكلام "العظمي" نظرات ، كل واحدة منها تحتاج مناقشة مستقلة .

 

          ( أ ) ففي النظرة الأولى نلاحظ أن الناقد قد أطلق كلمة الدين وقصد كل ما يسمى بني الناس ديناً ، حقاً كان أو باطلاً ، وهذا الإطلاق التعميمي فيه مغالطة جدلية لا يفعلها من يحترم فكر نفسه ، أو يحترم المنهج العلمي السليم لدى النقد والمناظرة ، لأن الحكم الواحد لا يصح ، يحكم به على مختلفات في الحقيقة لمجرد اشتراكها في الاسم العام اشتراكاً لفظياً ، فلا يصح أن يقول القائل : إن الإنسان أصفر الوجه قصير القامة بدليل أن بعض الناس كذلك ، فالأحكام لا تعطي صيغة التعميم الشامل ما لم يثبت أن جميع الأفراد المختلفة في حقيقتها مشتركة فعلاً في هذا الحكم التعميمي .

          فمغالطة (د. العظم) هنا قائمة على التعميم في الحكم مع اختلاف حقائق الأفراد التي يحكم عليها . وقد وضح لنا في مواضع كثيرة اعتماده على هذا العنصر من عناصر المغالطات .

 

          أفعلى هذا المستوى يريد أن يوجه نقده العلمي؟

 

          أفعلى هذا المستوى يريد أن يراجع المفاهيم الإسلامية مراجعة عصرية؟

 

          إن هذا العمل بعيد كل البعد عن الروح العلمية النقدية ، لو أنه كان صادقاً في طلب الحقيقة والبحث عنها .

 

          (ب) وفي النظرة الثانية نلاحظ أن الناقد قد أطلق كلمة الدين وقصد بها التعاليم الدينية الأساسية ، والتفسيرات الاجتهادية التي يقول أي إنسان منتسب إلى الدين ، وإن كانت اجتهادات ظاهرة الفساد ، وآخرون من علماء المسلمين يخالفونه فيها ، وإن كانت مفاهيم باطلة لطوائف منحرفة عن الدين تقول أقوالاً شاذة مرفوضة .

 

          وبعد هذا التعميم الباطل يطلق حكمه على الدين نفسه من خلال حكمه على هذه الآراء التي جانب أصحابها فيها وجه الصواب .

 

          لو قبلنا هذا التعميم لكان علينا أن نقبل أي فهم يفهمه أي إنسان من نص قانوني ، أو نص دستوري ، أو نظام من الأنظمة ، أو مذهب من المذاهب الإنسانية ، ثم نجعل هذا الفهم جزءاً من القانون أو الدستور أو النظام أو المذهب ، ثم نوجه إليها النقد على أساس هذا الفهم الخاطئ . لكننا نعلم أن هذا العمل مغالطة حقيرة لا تتفق مع أصول المنهج العلمي النقدي السليم ، لذلك فإننا لا نفعله ، لأن الإسلام يفرض علينا التزام الأمانة الفكرية ، ويفرض علينا أن نحافظ على أخلاق البحث العلمي السليم ، والمنهج النقدي الصحيح .

 

          وشبابنا المسلمون يعرفون هذه الأخلاق ويلتزمونها ، ويعرفون مداخل المغالطات فلا يتأثرون بها . وإذا شاء الملحدون أن يموتوا بغيظهم من ذلك فليفعلوا ، ولتبقَ مغالطاتهم على أكف الرياح السافيات ، مع الهشيم اليابس والقمامات .

 

          ( ج ) وفي النظرة الثالثة نلاحظ أن البحوث العلمية المتطور يوماً بعد يوم هي التي تتطور متقدمة إلى الأمام ، لتجد نفسها مقتربة من المفاهيم الكلية الكبرى التي قررها الإسلام في عقائده ومبادئه .

 

          إننا نسمي هذا تقدماً في البحث العلمي إلى المواقع الغائية التي يحتلها الدين الحق ، ولو أردنا أن نجاري (د. العظم) في تعبيراته لقلنا : إن البحوث العلمية تتراجع من مواقع النظرات المادية الإلحادية إلى مواقع النظرات الغائية الإيمانية ، وهي المواقع التي يحتلها الدين بثبات واستقرار ، دون تحول أو تراجع ، لأن الدين الحق الإلهي ، وهو يقف عند مواقع الحق ، وحينما يصل العلم إلى الحق ، تماماً يجد نفسه عند مواقع الدين .

 

          وهذا الكلام منا يحتاج إلى أدلة من الواقع العلمي ، حتى لا يكون ادعاء لا قيمة له ، وسأعتمد في هذا على أقوال كبار العلماء الماديين من علماء القرن العشرين .

 

          من المعروف في قصة الحضارة الحديثة أن معظم الأبطال الأولي الذين اكتشفوا كثيرا من القوانين الطبيعية التي اعتمدت عليها هذه الحضارة كانوا مؤمنين بالله ، ولكن خلفهم قوم زعموا أن هذه الاكتشافات قد أبطلت الحاجة إلى الإيمان بوجود الخالق جلَّ وعلا ، وتلقف الملاحدة الذين لهم غايات خاصة من نشر الإلحاد في الأرض ذلك ، وأخذوا يروجون له في مختلف المجالات العلمية وغير العلمية .

 

          ثم اتسعت دوائر المعرفة خلال القرن العشرين ، فبدأت تنهار أسس الفكر الإلحادي القائم على تفسير الكون تفسيراً مادياً ميكانيكياً بحتاً ، لدى كبار علماء الباحثين في مجالات المعارف الطبيعية الكونية .

 

          لقد حل (أينشتاين) محل (نيوتن) ، كما أن العالمين (بلانك) و(هايزنبرج) قد أبطلا نظريات (لابلاس) ، وفقد معارضو الدين اليوم تلك المكانة التي كانت تسمح لهم بأن يستندوا إلى العلم لنقض أسس الدين .

 

          إن نظرية النسبية وقاعدة الميكانيكا الكمية (كوانتم) قد أوصلتا العلماء إلى الاعتراف بأنه لا يمكن الفصل بين المشاهد والموضوع المشاهد ، ومعناه أنه ليس في إمكاننا إلا أن نشاهد بعض المظاهر الخارجية من أي شيء ، وأننا لا نستطيع أن نشاهد حقيقته الجوهرية .

 

          وقد أصبح من الحقائق القطعية أننا لا نستطيع أن نهتدي إلى الوجود الأصلي لأي شيء فيما يتعلق بعلم الطبيعة ، وأن كل ما يمكننا عمله هو بذل الجهد لمعرفة الهيكل الرياضي لذلك الشيء ، وقد سلم العلماء على أعلى مستوى اليوم بأن الزعم بأننا نستطيع أن نشاهد الأشياء في صورتها النهائية لم يكن إلا وهماً وسراباً .

 

          ويعتقد البروفيسور (آرثر إيدينجتين) "أن معرفة الهيكل الرياضي للشيء هي المعرفة الوحيدة التي يمكن لعلم الطبيعة أن يمنحنا إياها"[1].

 

          فقد جاء في مقال لهذا العالم ما يلي:

          " ... بقطع النظر عن الجوانب الجمالية والأخلاقية والروحانية ، فإن المادة والجوهر والبعد والوقت وغيرها من تلك الأشياء التي كانت تعتبر خاضع لعلم الطبيعة وحده قد أصبح من المتعذّّر علينا معرفة خصائصها ، بقدر ما كان متعذراً معرفة خصائص الأشياء غير المادية. إن علم الطبيعة الجديد لم يعد في وضع يسمح له بالمعرفة المباشرة لخصائص الأشياء . إن حقيقة هذه الأشياء خارجة عن حدود الإدراك ، ونحن نصل إلى حقائقها بواسطة الصور الذهنية . وأية صورة ذهنية لا يمكن أن تعكس لنا صوراً غير موجود البتة في الذهن . وهكذا لا يمكن للطبيعة 0باعتبار مجال عملها الحقيقي- أن تتناول الخصائص الخارجة عن حدود الإدراك ، بل هي لا تقوم إلا بالدراسة بواسطة الآلات التي يمكن لعلمنا الإحاطة بها . صحيح أن هذه الدراسة تصور لنا بعض الخصائص لعمل الكون إلا أن معلوماتنا الأصلية تتعلق بالدراسة عن طريق الآلات ، وليست بالخصائص نفسها . إن علاقة الدراسة عن طريق الآلات بالخصائص الحقيقية للأشياء تشبه علاقة رقم التليفون بصاحبه".

 

          ما هذه العلاقة الضعيفة جداً بين الدراسات الطبيعية للأشياء وبين حقائق الأشياء؟

 

          إن هذا العالم الطبيعي من كبار علماء القرن العشرين ليقلل كثيراً من قيمة الادعاءات العريضة التي كان يدَّعيها الماديون ، والتي كانوا يزعمون فيها أن العلوم الطبيعية قد بلغت بدراساتها معرفة حقائق الأشياء أو كادت تصل إليها . إن علماء اليوم المنصفين قد بدأوا ينقضون هذه الأقوال ويستخفونها ، ويعتبرونها تجاوزاً كبيراً للحدود التي بلغها علم الناس ، وهؤلاء العلماء قد بدأوا يعلنون ما كان أعلنه القرآن عن مبلغ علم الناس بقوله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول):

 

          {...وَمَآ أُوتِيتُم مِّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.

 

          ويقول البروفيسور (آرثر إيدينجتين) أيضاً:

 

          "إن حقيقة "أن العلم محدود بالمعلومات عن هيكل الأشياء" حقيقة ذات أهمية قصوى . إنها تؤكد أن الحقيقة الكاملة لا تزال غير معروفة . وفي ضوء هذه الحقيقة لا يمكن الزعم الآن بأن أحاسيسنا أو تجربة اتصال النبي بالله ليس لهما مثيل موضوعي (خارجي) وذلك لأنه من الممكن جداً أن يكون هناك مثيل خارجي لهذه الأحاسيس ، أو لتجربة النبي أو العارف بالله . ولم يعد من الممكن أن يقال عن أحاسيسنا الدينية أو الجمالية : إنها مجرد ظواهر خادعة كما كانوا يقولون بالأمس صلافة وتبجحاً ، وبإيجاز : إن العارف المؤمن بالله المؤمن بالدين يمكنه أيضاً أن يعيش –كحقيقة- في الدنيا".

 

          أليس هذا تراجعاً ظاهراً في موقف العلم إلى مواقع الفكر الديني ، وهذا التراجع أو التقدم في الحقيقة نتج عن واقع تقدم البحوث العملية الطبيعية ، إن العلم الإنساني بدأ يتعرف على حدوده .

 

          ولكن الماديين المتعصبين للنظرات التقليدية الإلحادية ما زالوا يجترون الادعاءات التبجحية السابقة ، على الرغم من أن العلم المتطور قد أظهر فسادها ، وتقدم خطوات مهمة في اتجاه مواقع الدين .

 

          وعلى هذا باستطاعتنا أن نسمي الملاحدة الماديين رجعيين ، لأنهم لا يسايرون تقدم العلم الصحيح .

 

          على أن قضية التقدمية والرجعية من القضايا النسبية ، فمن ابتعد عن الحق إلى جهة الباطل ثم رجع إلى الحق فهو رجعي فاضل كريم ، ومن ابتعد عن جهة الباطل إلى جهة الحق ثم رجع إلى جهة الباطل فهو رجعي خسيس ذميم ، ومن تابع تقدمه في جهة الحق فهو تقدمي بطل صاعد ، ومن تابع تقدمه في جهة الباطل فهو تقدمي خبيث منحط ، فالقضية في كل ذلك نسبية ، تتبع السالك والجهة معاً ، وكذلك الوراء والأمام ، فالنازل من المعالي يكون الوادي أمامه وتكون القمة وراءه ، ولو عقل لنظر إلى الوراء ورجع إليه ، والصاعد إلى المعالي تكون القمة أمامه والوادي وراءه ، وحينما يعقل يستمر في صعوده ولا يلتفت إلى الوراء ولا يرجع إليه .

 

          وقد انتهى الرياضي والفيلسوف الإنكليزي (ألفرد نورث وهايت هيد) إلى "أن الطبيعة حية".

          أي: ليست كما يزعم الماديون مجرد مادة تظهر الحياة فيها نتيجة تركيب آلي في عناصرها ، وهذا اقتراب من المفاهيم الدينية التي تقرر أن الكون عمل موجود حي .

 

          ثم إن الفلكي الإنكليزي السير : (آرثر إيدينجتين) قد استنتج من دراسة العلوم : "أن مادة العالم مادة عقلية" .

 

          وكذلك الرياضي السير : (جيمس جينز) الذي يعتبر أعظم علماء العصر قد عبَّر عن الكشوف الجديدة بقوله : "إن الكون كون فكري".

 

          إن العلماء الذين أدلوا بهذه الآراء هم علماء على درجة كبيرة من الأهمية في دنيا العلم ، ويلخص البروفيسور (ج. و. ن. سوليفان) أفكارهم في الجملة التالية:

          "إن الطبيعة النهائية للكون طبيعة عقلية".

 

          أي : ليست كما يزعم الملحدون الماديون مجرد حركة عشوائية غير عاقلة ظهر عنها في بلايين القرون هذا النظام الكوني المشاهد ، وهذه النتائج العلمية التي توصَّل إلهيا لعلماء تلغي بكل تأكيد الركائز الخيالية التي كان يستند إليها الملحدون ، وتجعل العلم يقترب من الحقائق الدينية التي تقرر أن الكون عمل موجود عظيم قادر حي سميع بصير .

 

          إن كتاب "عالم الأسرار" ، للفلكي الرياضي البريطاني السير (جيمس جينز) يحتوي على أكثر المواد العلمية قيمة من هذه الناحية ، وقد انتهى هذا العالم بعد مناقشة عملية بحتة إلى أن :

          "الكون لا يقبل التفسير المادي في ضوء علم الطبيعة الجديد ، وسببه –في نظري- أن التفسير المادي قد أصبح الآن فكرة ذهنية".

 

          أي : وهذه الفكرة الذهنية لا يؤيدها واقع الكون . ويقول هذا العالم أيضاً: "إذا كان الكون كوناً فكرياً فلا بد أن خلقه كان عملاً فكرياً أيضاً".

 

          هل يدرك الملحدون هذه الرجعة العلمية إلى الدين؟ أم يظلون في البقعة العمياء التي يقفون فيها فلا يتقدمون مع تقدم أضواء المعرفة؟

 

          ويقول السير (جيمس جينز) أيضاً:

 

          "من الصحيح أن نقول : إن نهر العلم قد تحول إلى مجرى جديد في الأعوام الأخيرة ...

          لقد كنا نظن قبل ثلاثين سنة – ونحن ننظر إلى الكون- أننا أمام حقيقة من النوع الميكانيكي . وكان يبدو لنا أن الكون يشتمل على ركام من المادة المبعثرة ، وقد اجتمعت أجزاؤه بالصدفة ، وأن عمل هذه المادة ينحصر في أن ترقص لبعض الوقت رقصاً لا معنى له ، تحت تأثير قوى عمياء لا هدف لها ، وأنه بعد نهاية الرقص ستنتهي هذه المادة في صورة كون ميت ، وأن الحياة قد وجدت صدفة خلال عمل هذه القوى العمياء ، وأن بقعة صغيرة جداً من الكون قد نعمت بهذه الحياة ، أو على سبيل الاحتمال يمكن أن توجد هذه الحياة في بقاع أخرى ، وأن كل هذا سينتهي يوماً ، وسيبقى الكون فاقد الروح .

 

          ولكن توجد اليوم أدلة قوية تضطر علم الطبيعة إلى قبول الحقيقة القائلة بأن نهر العلم ينساب نحو حقيقة غير ميكانيكية .

 

          إن الكون أشبه بفكر عظيم منه بماكينة عظيمة . إن (الذهن) لم يدخل إلى هذا العالم المادي كأجنبي عنه ، ونحن الآن إلى مكان يجدر بنا فيه استقبال (الذهن) كخالق هذا الكون وحاكمه . إن هذا الذهن بلا شك ليس كأذهاننا البشرية ، بل ذهن خلق الذهن الإنساني من "الذرة المادة" وهذا كله كان موجوداً في ذلك الذهن الكوني في صورة برنامج معد مسبقاً . إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم ، تلك التي كنا أقمناها على عجل . لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة أو مهيمنة ، وهذه القوة تشبه أذهاننا إلى حد كبير ، وهذا الشبه ليس من ناحية العواطف والأحاسيس وإنما هو شبه يتعلق بذلك النهج الفكري الذي يمكننا تسميته بالذهن الرياضي".

 

          هذا كلام عالم من أعظم علماء القرن العشرين ، شهد آيات الله في الكون عن طريق وسائل المعرفة الإنسانية التقدمية ، وكان منصفاً بريئاً من داء التعصب ،فأعلن شهادته المستندة إلى المعرفة العلمية ، وأبان بوضوح أن نهر العلم قد تحول فعلاً إلى مجرى جديد سائر في اتجاه مواقع الإيمان بالله الخالق القادر العليم الحكيم .

 

          وتحقق بعض ما جاء في الوعد الإلهي إذ قال سبحانه في سورة (فصلت/41 مصحف/61 نزول):

          {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}

 

          وسيتحقق كامل الوعد الإلهي مع تقدم العلمي الإنساني بحثاً عن خفايا الكون وأسراره .

 

          فليَقَرَّ المسلمون المؤمنون بالله أعينا ً، وليمت الماديون الملحدون بالله غيظاً . إن العلم المنصف قد بدأ فعلاً يتحول عن تفسيراته المادية البحتة ، التي ملأت الدنيا ضجيجاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، متجهاً إلى تفسيرات أخرى يقترب فيها الدين اقتراباً أزعج المؤسسات الإلحادية إزعاجاً كثيراً ، إذ بدأت تفقد ركائزها التي كانت تلبس ثوب العلم زوراً وبهتاناً ، وتصنع مغالطاتها من الفرضيات التي لم تكن قد أخذت مستوى التحقق العلمي ، وتصوغ منها مقدمات يقينية ، لتدعم سياستها الإلحادية ، نظراً إلى أن الإلحاد يخدم كما عرفنا مصالحها الخاصة .

 

          إن انتصار الحقيقة الكبرى في نهاية المسيرة العلمية قضية مقطوع بها في عقيدة المسلمين ، فلا خوف على الدين من العلم الصحيح .

 

          إلا أن داء الهوى وداء التعصب كثيراً ما يصيبان الباحثين في طريق العلم والمعرفة ، كما يصيبان الآخرين من الناس .

          يقول المفكر الإسلامي (وحيد الدين خان)[2]:

          "وبالرغم من هذه التغييرات في دنيا العلم لم يطرأ تغير يذكر على العقلية المنكرة للدين . بل على العكس من ذلك ينهمك معارضو الدين في تدبيج قضيتهم ضد الدين بأساليب جديدة ، وليس سبب هذا الموقف اكتشافاً  علمياً خطيراً ، وإنما هو التعصب ولا غير . إن التاريخ ليحفل بما لا يحصى من الوقائع التي تبرهن على أن البشر رفضوا الحقيقة – رغم تجليها بوضوح – لأن تعصبهم لفكرة ما لم يسمح لهم بقبولها . وهذا التعصب الأعمى هو الذي جعل العلماء الإيطاليين قبل أربعة قرون يرفضون نظرية (جاليليو) كبديل لنظرية أرسطو القديمة ، على الرغم من أن الكرتين اللتين أسقطهما (جاليليو) من قمة منارة (ليننج) قد جعلتا نظريته حقيقة مرئية للعيان ، وهذا هو التعصب الذي جعل العلماء في نهاية القرن الماضي يسخرون من نظرية البروفيسور (ماكس بلانك) المفسِّرة لظواهر الضوء ، والتي أبطلت نظرية (نيوتن) وتلك هي النظرية التي تسمى اليوم بنظرية الكمية (الكوانتم) ، وتعتبر من أهم أسس علم الطبيعة الحديث .

 

          وإذا كان أحدنا يظن أن داء التعصب يمكن أن يصيب الآخرين دون العلماء فإنني سأذكره بما قاله أحد العلماء المعاصرين وهو الدكتور (أ. و. هيلز):

 

          "إنني سأكون آخر من يدعي أننا نحن العلماء أقل الناس عرضة للتعصب بالنسبة للمثقفين الآخرين".

 

          فنحن أمام دنيا يمزقها التعصب . فكيف لنا أن نتوقع أن نظرية ما سوف تحظى بقبول الجميع لمجرد أن المنطق أو العلم قد أثبتها؟!

 

          إن تجربة التاريخ الطويل تدلنا على أن العواطف لا العقل هي التي كانت تقود الإنسان ، وبالرغم من أن العقل هو الذي يحظى بالمقام الأرفع علمياً ومنطقياً ، لكن العواطف في أغلب الأحايين هي التي كانت تستعبد العقل ، وكان العقل دوماً يخترع المعاذير للعواطف."اهـ.

[1] اقتباساً من كتاب "الدين في مواجهة العلم"، تأليف وحيد الدين خان ... وكذلك ما جاء بعده من أقوال (آرثر إيدينجتين) ، وأقوال (سوليفان) ، وأقوال (السير جيمس جينز) وغيرهم .

[2] في كتابه "الدين في مواجهة العلم"".



» تاريخ النشر: 26-11-2009
» تاريخ الحفظ:
» شبكة ضد الإلحاد Anti Atheism
.:: http://www.anti-el7ad.com/site ::.