جدالهم بالسباب والشتائم والمشاغبات والصد عن الحق ونحو ذلك

جدالهم بالسباب والشتائم والمشاغبات والصد عن الحق ونحو ذلك

من كتاب :

      صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

      تأليف

      عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

 

          حجج الكافرين التي قد يتصنعون فيها الهدوء ، وقد يحاولون إبرازها بصورة منطقية في أول الأمر ، حين تنقطع بهم وتتخاذل وتبدأ بالتصاغر والانهزام تثور ثائرتهم ، ويطيش صوابهم ، ويلجؤون إلى خطة السباب والشتائم والمشاغبات ، وصرف أتباعهم عن سماع الهدى ، وصدّهم عن مجالسه ، حتى لا يتأثروا به فيتبعوه .

 

          والدفع بالسباب والشتائم لا يدخل في نظام جدال العقلاء المتناظرين لبلوغ الحق ، وإنما هو خطة السفهاء ، للتغلب بأية وسيلة ، ولإثبات المذهب والرأي ولو عن طريق الإكراه بالقوة ، فإذا لم توجد القوة ، فبالمشاغبة والشتيمة وتقطيع الناس عن داعي الحق ، وهذه هي خطة الكافرين وسائر المبطلين .

 

          * أسلوب الشتائم:

          ومن الشتائم اتهام داعي الحق بأنه مبطل ، واتهام الحق بأنه باطل أو سحر أو كذب أو نحو ذلك .

 

          وقد بيَّن الله لرسوله هذا الأسلوب السفيه من أساليب دفع الكافرين للآيات البينات التي سيأتيهم بها ، ليهيئه نفسياً لتحمل الصدمات القاسيات التي يوجهونها له ، وتحمل أنواع المكابرات والافتراءات التي يفترونها عليه .

 

          إنه سيأتيهم بالحق المبين فيقولون له : إن أنت إلا مبطل من المبطلين ، فما عليه إلا أن يصير عليهم ، ويلازم نشر دين الله والدعوة إليه ، فحجتهم الجدلية في هذا إنما هي مقابلة الحق باتهام صاحبه بأنه مبطل ، وليس هذا في الحقيقة حجة ، إنما هو دافع بالسباب ، ومقابلة للحق بالشتائم .

 

          هذا الإعداد النفسي من الله لرسوله ، ولكل داعٍ إلى الحق من بعد الرسول ، نجده في قول الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول):

          {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ }.

 

          فمن الملاحظ أن الله يوصي رسوله في هذا النص بالصبر على شتائم الكافرين ، حين يتهمونه بأنه مبطل ، وهو يأتيهم بالآيات البينات والحجج الظاهرات ، ويوصيه أيضاً بالرزانة والرصانة ورجاحة النفس حتى لا يستخفه الذين لا يوقنون بمثيراتهم وجدلياتهم الباطلة ، وشتائمهم المنكرة ، فالرزانة والرصانة ورجاحة العقل والنفس من سمات كبار الدعاة إلى الحق ، مهما استثيروا واستغضبوا ، إن أوزانهم الراجحة لا تستخفها المثيرات من رياح الشتائم أو أعاصير السباب المنكر .

 

          وظاهر أن هذه الوصية التي أوصى الله بها رسوله وصية يطالب بها كل داعٍ إلى الله ، فالجدال متى بلغ حد الغضب تحول عن مقصده ، وارتدى رداء التعصب والانتصار للنفس ، وسلك مسالك الهوى ، وأدخل فيه الشيطان وساوسه ودسائسه ، وربما انحرف المحقون بسبب ذلك عن منهج الاستقامة .

 

          وقد لجأ الكافرون فعلاً إلى خطة الشتائم ، فأخذوا يتهمون الرسول صلوات الله عليه بأقوال شتى ، منها المقالات التالية :

 

          ساحر كذاب – إنه لمجنون – شاعر مجنون – قد افترى على الله كذباً – بل افتراه ، بل هو شاعر - .

 

          وقالوا عن القرآن : سحر – أساطير الأولين – شعر – مفترى – أضغاث أحلام – إلى غير ذلك من عبارات .

 

          وهكذا نوَّع الكافرون عبارات الشتائم لما عجزوا عن متابعة الجدال المنطقي ، ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل .

 

          وقد ذكر الله في القرآن أقوالهم التي أطلقوها وفيما يلي طائفة من النصوص القرآنية التي حكت أقوالهم :

 

          ( أ ) فمنها قول الله تعالى في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول):

          {صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ * بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ * أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ}

 

          ففي هذا النص يحكي الله لنا مقالة الكافرين عن الرسول صلوات الله عليه ، إذ قالوا : هذا ساحر كذاب ، وإذ قالوا عن القرآن : إن هذا إلا اختلاق ، وأمام هذا التهجم بالسباب لم يبقَ من معالجتهم إلا الإنذار بالعذاب القريب ، وذلك في قوله تعالى : {بل لما يذوقوا عذاب}.

 

          (ب) ومنها قول الله تعالى في سورة (الصافات/37 مصحف/56 نزول):

          {وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}

 

          فهم يتكلفون إعلان السخرية من الآيات الربانية ، لتغطية موقفهم الذي أصابتهم فيه الدهشة من الآيات ، ثم يوجهون اتهامهم الذي يشتمون به من جهة ، ويحاولون به تفسير ظاهرة الآيات من جهة أخرى تفسيراً يصرفها عن حقيقتها .

 

          ( ج ) وقد بلغت بهم الوقاحة مداها فواجهوا الرسول بقولهم له : إنك لمجنون ، وقد قص الله علينا ذلك بقوله في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول):

          {وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزلَ عَلَيْهِ ٱلذكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ * مَا نُنَزلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ}

 

          وهذه الوقاحة مقرونة بالسخرية ، إذ كان بدء كلامهم يصفه بأنه قد نزَّل عليه الذكر ، فلما أتبعوه بقولهم له : إنك لمجنون دلَّ على أنهم مستهزئون بما قالوا أولاً.

 

          إنهم لم تنقصهم الأدلة ، ولكنهم متعنِّتون معاندون ،ولو رأوا أقوى الآيات لتعللوا في رفضها بأوهى التعلات ، وقد بين الله هذا من واقعهم بقوله في السورة نفسها سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول):

          {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}

 

          ( د ) ومنها ما قصه الله عنهم بقوله في سورة (الصافات/37 مصحف/56 نزول):

          {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوۤ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}

 

          وما قصه بقوله في سورة (الدخان/44 مصحف/64 نزول):

          {أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ}

 

          وكذلك قال فرعون عن موسى ، وقد حكى الله لنا مقالة فرعون في سورة (الذاريات/51 مصحف/67 نزول):

          {وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}

 

          وما من رسول إلا قال عنه قومه مثل ذلك ، قال الله تعالى في سورة (الذرايات/51 مصحف/67 نزول):

          {كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}

 

          وهذه هي التعلة التي يفر إليها المكذبون بالحق ، لشتيمة داعيه ، وصرف الجماهير من الناس عن اتباعه .

 

          * أسلوب المشاغبة :

          ومن غريب ما لجأ الكافرون إليه في جدالهم أسلوب المشاغبة ، رجاء أن يغلبوا الحق به .

 

          لما انقطعت حجتهم حول القرآن ، ورأوا أن له تأثيراً عجيباً على قلوب الناس ، وأن تأثيره هذا قد أخذ يجلبهم إلى الإسلام ، ويفتح بصائرهم على الحق ، فتستنير بنور المعرفة الربانية ، قال بعضهم لبعض : لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون .

 

          فنهى القادة أتباعهم عن الاستماع للقرآن ليصرفوهم عنه حتى لا يؤثر في قلوبهم ونفوسهم ، وليقفوا قلوبهم عن مشاهدة نوره ، وأمروهم باللغو فيه ، مشاغبة وتشويشاً ، لملء فراغ السمع ، حتى لا يلتقط منه أتباعهم شيئاً ، وحتى لا يلتقطوا هم أنفسهم منه شيئاً فيؤثر على قلوبهم ، كما حصل لكثير من الذين أسلموا بقوة تأثير القرآن ، وعللوا نهيهم وأمرهم هذين برجاء الغلبة ، فقالوا : "لعلكم تغلبون".

 

          وخطة المشاغبة هذه غوغائية أتقنتها تماماً أحزاب الهدم والتخريب التي ظهرت في القرن العشرين .

 

          وخطة المشاغبة خطة تقدم الدليل ضد المشاغبين بأنهم قد غدوا خائبين مغلوبين ، منهزمين من معركة البيان والبرهان ، ومتحولين إلى معركة الشغب واللغط والضجيج والغوغائية .

 

          وفي بيان مقالة الكافرين هذه قال الله تعالى في سورة (فصلت/41 مصحف/61 نزول):

          {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}

 

          ولما لم يكن من شأن الحق أن يقابل الجنوح بالجنوح ، أو يعارض الفساد بالفساد ، أو يتحول من المناظرة بالحق إلى اللغط والمشاغبة ، باعتبار أن ذلك من خطط الجاهلين الذين لا يملكون حجة ولا يحيرون جواباً ، أعرض القرآن عن مقالتهم هذه ، ولجأ إلى بيان سوء المصير الذي سوف يلاقونه يوم الدين ، باعتبار أنه جزء من أصل بيانات الرسالة ، فقال الله تعالى عقب الآية السابقة:

          {فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُون}

 

          إنه لا سبيل بعد موقفهم العدائي الذي سدوا فيه كل مسلك من مسالك البحث والمناقشة والإقناع والاقتناع إلا سبيل التهديد والوعيد بسوء المصير ، وعليهم بعد ذلك أن يتحملوا عاقبة كفرهم بالحق ، وإنكارهم لما جاء به الرسل من لدن عزيز حكيم ، لا يضره كفرهم شيئاً ، وهو غني عن إيمانهم وعن طاعتهم ، ولكن يهديهم بما أنزل في الدين إلى طريق نجاتهم وسعادتهم الخالدة .

 

 

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة