عرض المقال :حول المعرفة الدينية والمعرفة بمعناها العقلي والعلمي
  الصفحة الرئيسية » مـقـالات الموقـــع » الرد على شبهات حول الإسلام » الرد على الشبهات العقلانية للملاحدة

اسم المقال : حول المعرفة الدينية والمعرفة بمعناها العقلي والعلمي
كاتب المقال: الحقيقة

حول المعرفة الدينية والمعرفة بمعناها العقلي والعلمي

من كتاب :

      صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم

      تأليف

      عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان

 

 

          قال (د. العظم) في الصفحة (72) من كتابه:

 

          "ورد معنا ذكر طائفة من المفكرين يقولون : إن المعرفة الدينية تختلف اختلافاً جذرياً وكلياً عن المعرفة بمعناها العقلي أو العلمي ، لذلك نجدها دائماً مناقضة للمنطق ومتنافية مع العقل".

 

          قبل أن أتابع ذكر بقية كلامه حول هذه المقدمة ، لا بد من التنبيه على أن هذا الكلام كذب على الإسلام والمسلمين لا أصل له مطلقاً . إنه لا يوجد واحد من علماء المسلمين يقول : إن المعرفة الدينية تختلف اختلافاً جذرياً وكلياً عن المعرفة بمعناها العقلي ، ولذلك نجد المعارف الدينية مناقضة للمنطق ومتنافية مع العقل .

 

          فلست أدري من أين جاء بهذه الفرية على الإسلام والمسلمين على المعارف الدينية الإسلامية؟!

 

          إن الذي يقوله جميع علماء المسلمين يقضي بأن جميع ما ثبت في الدين يتفق مع مفاهيم المنطق السليم ، والعقل الصحيح ، والعلم الثابت .

 

          وقد سبق أن بينَّا أن التناقض أو التنافي لو وجد فهو ليس بين ما ثبت في الدين بشكل قاطع وما ثبت في العلم أو العقل بشكل قاطع ، وإنما بين ما نسب إلى الدين وهو ليس منه وبين الحقائق العلمية الثابتة ، أو بين ما نسب إلى العلم وهو ليس منه وبين الحقائق الدينية الثابتة ، أو بين ما نسب إلى الدين وما نسب إلى العلم وكل منهما لم تصحَّ نسبته إلى صاحبه .

 

          ولكن قد توجد أمور ثبتت في الدين والعقل لا يستطيع مستقلاً أن يثبتها ، كما لا يستطيع أن ينفيها ، فهي لا تناقض أصول العقل والمنطق ولا تتنافى مع العلم ، إنما عجزت الوسائل العلمية عن إدراكها والوصول إلى معرفتها ، وعجزت التصورات العقلية عن إدراكها وتحديدها ، وهذا شيء يُعزى إلى قصور المعرفة والإدراك ، وليس من التناقض ولا من التنافي حتماً . ونظير هذا يحدث في مجال الدراسات العلمية الإنسانية البحتة . إن العلماء قد استنبطوا من الظواهر المادية كثيراً من القوانين ، منها مثلاً قانون الجاذبية ، مع أن أية وسيلة علمية لا تستطيع أن تحدد كنه هذه الطاقة التي تظهر آثارها ، ولا يستطيع العقل أيضاً أن يتصور صورة مادية لها ، ولا أحد يقول مع ذلك : إنها مناقضة للمنطق ومتنافية مع العقل .

 

          وبعد هذه المقدمة التي افتراها على الإسلام والمسلمين ، قال في متابعة كلامه:

 

          "يقول أصحاب هذا المذهب : إن العقل الإنساني قاصر عن أن يعرف طبيعة الإله ، وعن أن يحيط به ولو إحاطة جزئية . إنه عاجز عن تصوره وعن التعبير عن طبيعته ، وعّر البعض عن هذا الرأي بقولهم عن الله : (كل ما يخطر في بالك فهو خلاف ذلك).

 

          وقبل أن نتابع بقية كلامه نقول : هذا كلام لا علاقة له بالمقدمة التي افتراها ، فكون العقل الإنساني قاصراً عن تصور ذات الخالق جلَّ وعلا ، وعاجزاً عن معرفة كنه هذه الذات ، لا يعني بحال من الأحوال أن ذاته سبحانه مناقضة للمنطق ومتنافية مع العقل . جُلُّ ما في الأمر إثبات العجز للجهاز المدرك ، علماً بأن العقل عاجز عن إدراك أو تصور كثير من الحقائق العلمية الثابتة في الكون المادي المدروس ، حتى إن العقل لم يستطع إلى يوم الناس هذا أن يدرك كنه ذات نفسه ، فهل جهله بذات نفسه ينفي وجوده ، باعتبار أن هذا الجهل مناقض للمنطق ومتنافٍ مع العقل بحسب دعوى (د. العظم)؟

 

          هذا كلام فارغ وسخيف ومتهافت لا يقبله من لديه مثقال ذرة من عقل ، وهو في حقيقته يسخر من قائله ولا يخدع قارئه.

 

          ثم إن (د. العظم) بعد أن وضع المقدمة المفتراة ، وبنى عليها مسألة غير ذات علاقة بها مطلقاً بقصد المغالطة والتضليل ، قال موجهاً اعتراضاته:

 

          "توجد عدة اعتراضات على هذا الموقف . أولاً: هل بإمكاني أن أقيم علاقات جدية بيني وبين هذا الإله ، الذي تتجاوز طبيعته تجاوزاً مطلقاً منطقي ومشاعري وأفكاري ومثلي وآمالي؟ هل بإمكاني أن أجد عزاء في إله جُلُّ ما أعرفه عنه أنه مهما خط في بالي من أفكار وصفات فهو يختلف عنها اختلافاً مطلقاً؟ إن وجود مثل هذا الإله وعدم وجوده سيان بالنسبة إليه . إن هذا الإله ليس إلا تجريداً فارغاً من كل معنى ومحتوى ، ولا يمكن لإرادة إنسان أن تتعلق بتجريد محض ، تجاوز بمراحل التجريد الذي وصفه أرسطو باسم (المحرك الأول) فإذا كان بإمكانك أن توجه ابتهالاً أو دعاء إلى المحرك الأول فمن المؤكد أنك لن تستطيع أن توجه لإله لا يمكنك أن تصفه بشيء على الإطلاق ، لأنه بطبيعته مخالف لكل ما يرد في ذهنك من أفكار وكل ما تنطق به من صفات".

 

          هذا هو الاعتراض الأول الذي وجَّهه ، وهو بهذا الكلام يضيف إلى افترائه في المقدمة ومغالطته فيما بنى عليها ، فيطرح هنا كذباً جديداً ومغالطة في الحقائق ويدَّعي على الفكر الإسلامي تعميماً كاذباً مخالفاً للحقيقة تماماً .

 

          إن أحداً من المسلمين لا يقول: إن العقل قاصر عن أن يعرف شيئاً عن الله الخالق جلَّ وعلا ، أو قاصر عن أن يحيط ولو إحاطة جزئية بصفاته ، فهذا من الكذب على المفاهيم الإسلامية .

 

          لكن الذي يقوله المسلمون إنما هو منحصر في معرفة كنه ذات الخالق ، والذات شيء والصفات ذات الأفعال والآثار شيء آخر ، فقول المسلمين : "كل ما خطر في بالك فالله بخلاف ذلك" ، قول منحصر في معرفة كنه ذات الخالق ، لا في معرفة صفاته ، وذلك لأن تصورات الأفكار كلها مقتبسة من صور الكون الحادث ، وهذه الصور المادية لا تليق بكمال الله جلَّ وعلا ، إذ ليس كمثله شيء ، ولا يتوقف على معرفة كنه ذات الخالق شيء من الإيمان ولا من العلاقة به .

 

          إننا نتعامل مع كثير من طاقات الكون دون أن نعرف كنه ذاتها . عقولنا لا نعرف كنه ذاتها . معظم ما هو داخل في أجسامنا لا نعرف كنه ذاته . أفيؤثر هذا على إيماننا بها وتعاملنا معها؟

 

          ولا بد أن يلاحظ القارئ حشد المغالطات التي صنعها (د. العظم) ويكتشفها ويعرف ما فهيا من زيف لا يحتاج كشفه إلى كد ذهني .

 

          لقد جعل الشيء الذي يعجز العقل عن إدراكه وتصوره شيئاً مناقضاً للمنطق ومنافياً للعقل ، وهذا باطل بداهة كما أوضحنا ، إن أموراً كثيرة جداً يعجز العقل عن تصورها وتحديد ذاتها وهي واقعة فعلاً ، وحينما يدركها العقل لا يرى فيها مناقضة للمنطق ولا منافاة للعقل . الأعمى يعجز عن تصور الألوان ، مع أن الألوان لا تناقض المنطق ولا تتنافى مع العقل ، لا في مفهوم المبصرين ولا في مفهوم العميان .

 

          ليكن واضحاً لدينا تماماً أن قصور الجهاز المدرك عن إدراك بعض الحقائق لا يعني بحال من الأحوال أن هذه الحقائق مناقضة لمنطق الأشياء . هذه بديهة ولكن (د. العظم) أراد أن يغالط بها ، وأراد أن يموِّه بها على السذج من المخدوعين المفتونين بعبارات (أصول البحث العلمي) و(قواعد المنطق الحديث) و(ما توصلت إليه الحقائق العلمية) وأمثالها من العبارات التي غدت شعارات للتمويه والتضليل فقط يستعملها بعض أصحاب المذاهب ذات الأغراض الخاصة ، كسائر الشعارات الجميلة ، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية ، إن هذه الشعارات تحمل بريقاً لفظياً يسرُّ السامعين ويعجبهم ، ولكن ليس لها عند مستغليها مضمون عملي تطبيقي .

 

          وبعد أن بنى (د. العظم) هذا البناء الوهمي على المقدمة الكاذبة الأولى ، وجَّه عدة اعتراضات عليه ، وهذه الاعتراضات وجهها على اعتبار أن من نسب إليهم هذا المذهب من المفكرين المسلمين يرون أنه لا يمكن إدراك أي شيء عن ذات الخالق ولا عن صفاته .

 

          وهنا تكمن مغالطته الثانية ، وهي مغالطة تعتمد على تعميم تمويهي كاذب لقضية خاصة ، وذلك لأن عبارة : "كل ما يخطر في بالك فالله بخلاف ذلك" عبارة خاصة بتصور كنه ذات الله ، وليست شاملة لذاته وصفاته ، ولكن (د. العظم) عمَّم في دلالتها وفي مفهومها تعميماً باطلاً ، ليوجه اعتراضه على منطقة التعميم التي ادعاها زوراً وبهتاناً .

 

          إن صنيعه يشبه صنع من قال : إن الماء صخر جامد ، والذين يقولون : إن السفن الشراعية تجري بالهواء لا بد أن يسلموا بأن هذه السفن تجري في الجبال والصخور والرمال ، وكلامهم هذا معترض من وجوه:

 

          الأول: أن الماء ليس صخراً جامداً .

          الثاني: أن السفن البحرية لا تجري في الجبال والصخور والرمال .

          الثالث: أن السفن البحرية قد تجري بالمحركات الآلية .

 

          هذا لون عجيب جداً من المغالطات التي تصطنع الأكاذيب ، والتعميمات ، وتضع الأشياء في غير مواضعها ، ومع ذلك فإن المنطق (العظمي) يقبله ، ويقبله مع سائر الملحدين!!

 

          وعلى مثل هذا المنطق يريدون أن يصنعوا جيلاً عربياً تقدمياً .

 

          من الطبيعي بعد أخذ المجال التعميمي الذي ادعاه كذباً على الفكر الإسلامي أن يصل إلى منطقة تجريد مطلق لا يفهم منه شيء ، فبينما كان أصل الموضوع منحصراً في كنه ذات الله ، إذا به يجعله شاملاً للذات والصفات كلها وسائر المفاهيم ، وهذا ما لا يقول به أحد في الوجود ، ولما وصل في أكذوبته إلى هذا المستوى وجه اعتراضه كما راق له فقال : "هل بإمكاني أن أقيم أية علاقات جدية بيني وبين هذا الإله ... إلى آخر كلامه".

 

          من الطبيعي أن إلهاً لا يفهم عنه شيء من ذات ولا من صفات مطلقاً أن يكون تجريداً فارغاً من كل معنى ومحتوى . لكن أحداً من المؤمنين بالله لا يقول بمثل هذا الكلام الباطل .

 

          إن المؤمنين يثبتون لله صفات كثيرة من صفات الكمال ، بل هم يثبتون له كل صفات الكمال ، وينفون عنه كل صفات النقصان ، ويستطيعون أن يتصوروا من صفاته على مقدار عقولهم ، ويطلقون الحدود دون حصر ، إنهم يؤمنون بصفة وجوده الواجب سبحانه ، ويحسنون تصور هذه الصفة على مقدار عقولهم ، ويؤمنون بصفة قدرته الكاملة القادرة على خلق كل ممكن ، ويحسنون تصور هذه الصفة على مقدار عقولهم ، ويؤمنون بصفة إرادته واختياره التي تختار من الممكنات ما تشاء ، ويحسنون تصور هذه الصفة على مقدار عقولهم ، ويؤمنون أيضاً بصفات علمه وسمعه وبصره وصفات أفعاله ، ويستطيعون أن يتصوروا من هذه الصفات على مقدار عقولهم ، وهكذا إلى كثير من صفاته سبحانه .

 

          فهل هذا هو التجريد المطلق الذي ادَّعاه (د. العظم) كذباً وبهتاناً؟!

 

          ألا يسوغ في منطق العقل أن نؤمن بموجد نعلم كل صفاته التي لها آثار متصلة بنا ، من خلق ورزق ، وإحياء وإماتة ، وعدل وجزاء ، ورحمة وعقاب ، وغير ذلك دون أن نعلم كنه ذاته وطبيعتها الخاصة؟

 

          إن العلماء الماديين يؤمنون بالجاذبية ، وهم لا يعلمون من خصائصها إلا أنها قوة تجذب . إنهم يعتقدون بها ، ويتعاملون معها ، لمجرد معرفة صفة من صفاتها ، دلت على آثارها ، فكيف بمن علمنا من صفاته أشياء كثيرة متعلقة بنا؟

 

          يا عجباً لمنطق الملحدين!! إنهم يقيمون علاقات جدية مع أوهام إلحادية ، وعلاقات جدية مع قوانين طبيعية لا يعرفون كنه ذاتها ، وإنما تظهر لهم بعض آثارها التي تدلهم على بعض صفاتها ، ثم يستكبرون عن أن يقيموا علاقات جدية مع الله ، الذي يظهر لهم من آثاره أنه قادر عليم ، عادل حكيم ، خالق رازق ، محيي مميت ، سميع بصير ، نافع ضار ، يجازي المحسنين والمسيئين .

 

          وإن تعجب فعجب قولهم وعجب منطقهم .

 

          ثم إن (د. العظم) وجَّه اعتراضاً ثانياً على البناء الفاسد نفسه الذي بناه فقال:

          "ثانياً: إذا كان الإله لا يوصف ولا يدرك بالنسبة إلى البشر فما معنى قولنا إذاً بأنه (رحيم وبأنه عادل) . عندما ننعت الله بالرحمة والعدل ماذا نعني بهذه الصفات؟ أليس هناك من شبه على الإطلاق بين الرحمة والعدل عندما نطلقهما على الله ، وبين تصورنا الإنساني لهاتين الصفتين؟ إذا كان الجواب بالنفي هل تكون إذن أذهاننا فارغة من كل معنى وتصور؟ عندما ننعت الله بالرحمة والعدل ، هل ننسب إليه كلمات لا معنى لها على الإطلاق بالنسبة للبشر؟ في الواقع إننا في موقف حرج حيال هذا الموضوع ، فإما أن ننعت الله بالعدالة وفقاً لتصور يشبه إلى حدِّ ما وبصورة غامضة تصورنا الإنساني لهذه الصفة ، وإما أن يكون قولنا بعدالته كلاماً فارغاً من كل معنى ومحتوى . أي : إننا مرغمون إما على التشبيه وما يترتب عليه من عواقب ، أو على التنزيه التام وما يستتبع من نتائج.

 

          يوجد حل تقليدي لهذه الكتلة من التناقضات والمشكلات ، وهو الأخذ بظاهر المعنى والتصديق به مع تفويض معرفة حقيقته إليه تعالى ، أي التصديق دون معرفة ، والإيمان على طريقة العجائز".

 

          مرة ثالثة يلجأ في هذا الموضوع بالذات إلى المغالطة والتمويه عن طريق التعميم الفاسد .

 

          فبعد المغالطة السابقة التي اعتمد فيها على تعميم العجز البشري في واقعهم الدنيوي عن إدراك ذات الله وكنهها ، بالنظر إلى أن الأبصار لا تدركه سبحانه ، وبعد أن جعل هذا العجز البشري شاملاً للذات والصفات وهو ما لم يقل به أحد ، فقز قفزة جديدة إلى مغالطة جديدة ، تعتمد على تعميم خلط فيه جميع ما نسب إلى الله من صفات في النصوص ، ليعطيها حكماً واحداً عاماً ، باعتبار أن بعضها مما يوهم التشبيه بالمخلوقات قد ثار حوله حوار في فهم المراد منه بين المفكرين من علماء المسلمين .

 

          ويبدو أعن علمية المغالطة القائمة على تعميم الخاص أهم عناصر مغالطاته ، كما أنها أهم عناصر مغالطات (فرويد) أحد قادته المثاليين في نظره ، إذ كان (فرويد) يأخذ من الحالات الشاذة النادرة أحكاماً عامة مطلقة ، مخالفاً بذلك كل منهج علمي .

 

          إن ادعاء (د. العظم) بأننا لا نفهم شيئاً عن صفات الله تعالى وإلا وقعنا في التشبيه ادعاء باطل ، ونستطيع بالتحليل العلمي أن نكشف بطلانه .

 

          إن الطاقة الفكرية تستطيع أن تأخذ منطلقاتها في الاتجاه غير المحدود (اللانهائي) مهما كانت الحواس تشدها إلى الواقع المدرك المحدود ، فالفكر يشاهد مثلا عن طريق الحواس الموجودات الحادثة ، فيأخذ صورة صحيحة إلى تصور معنى الوجود الأزلي ، وهو يُحسن أن يتصور من معنى الوجود الأزلي على مقدار وعائه ، فيثبته لله تعالى ويطلقه من حدود المدركات بالحس ، ويلاحظ الفكر الإنساني القدرات المادية التي ترفع الأرطال والقناطير وما هو بوزن الجبال ، والقدرات غير المادية التي تفعل الأفعال العجيبة ، فيأخذ صورة تجريدية صحيحة عن معنى القدرة أو الطاقة ، ثم ينطلق منها في سلسلة التكامل الارتقائي إلى تصور قدرة فوق قدرة ، وطاقة فوق طاقة ، حتى يصل إلى تصور قدرة تخلق السماوات والأرض وتفعل كل ممكن ، دون أن تعجز أو تضعف ، فيثبت هذه القدرة لله ، ويطلقها من حدود المدركات بالحس ، بمقتضى أحكام سلسلة التكامل ، التي لها في العقل أصول يمكن أن تبنى عليها مدركات غير محدودة ، والعقل يحسن أن يتصور من معاني القدرة الكاملة على مقدار وعائه ، وما زاد عن وعائه يقف دونه عاجزاً مسلماً ، فهو بذلك قد فهم وأدرك على مقداره ، وكان لوصف الله بأنه قدير معنى صحيح واضح في فكره وتأملاته .

 

          ونقول نظير ذلك في الإرادة ، وفي العلم ، وفي السمع ، وفي البصر ، وفي الرحمة وفي العدل وهكذا .

 

          ومغالطة التشبيه التي جاء بها (د. العظم) إنما جاء بها من الصفات الواردة في النصوص مما يوهم ظاهره التشبيه الجسدي ، كالصفات التي تثبت لله وجهاً ويداً ونحو ذلك ، فهذه هي التي جرى بين علماء المسلمين حول المراد منها ، بين الإثبات من غير كيف ، والتأويل والتفويض ، ولكن هذه لا تؤثر على سائر الصفات التي لا خلاف في فهمها وإدراك معانيها .

 

          وناقدنا (د. العظم) لم يجد سبيلاً إلا أن يغالط عن طريق التعميم الذي أصَّل له .

 

          وحين يتصور (د. العظم) أنه بلغ ما يريد طرح حول الموضوع نفسه مسألة القضاء والقدر ، فقال :

 

          "وأفضل مثال على هذا الموقف المشكلة الكلاسيكية التالية : يفترض في المؤمن أن يسلم بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى ، وأن يؤمن بالعقاب والثواب ، وأن يؤمن أيضاً بالعدالة الإلهية ، رغم ما في هذه الموضوعات من تناقضات عقلية وأخلاقية . ويبرر أصحاب هذا الرأي موقفهم بقولهم: إن العقل الإنساني عاجز تماماً عن إدراك طبيعة العدالة الإلهية ، وعلاقتها بالحساب والقضاء والقدر ، وبما أن هذه المواضيع لا تخضع للمنطق البشري ، لذلك تبدو متناقضة ومغايرة لمعاييرنا الأخلاقية وغير منصفة".

 

          يبدو أن الناقد أخذ فكرة القضاء والقدر في الإسلام من أفواه جهلة العامة الجبريين ، ولم يقرأها في كتاب علمي معتمد من كتب العقيدة الإسلامية[1].

 

          وربما يكون قد قرأها في كتاب علمي معتمد إلا أنه طمس مذهب أهل الحق في هذا الموضوع ، وأخذ رأي الجبريين الذين كذبهم القرآن فيما ادَّعوه ، ورفض مذهبهم جمهور علماء المسلمين ، وبعد أن أخذ رأي الجبريين جعله هو الرأي الإسلامي ، وأخذ يوجه عليه اعتراضاته لما فيه من تناقض ، وغرضه هدم الإسلام كله من خلال رأي فاسد قاومه القرآن ، ورفضه علماء المسلمين .

 

          أما تكذيب القرآن لرأي الجبريين فيما ذهبوا إليه ، باعتبار معارضاً لمبدأ امتحان الإنسان وتكليفه وجزائه بالعقاب أو بالثواب فنجد في قول الله تعالى في سورة (الأنعم/6 مصحف/55 نزول):

          {سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم منْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}

 

          ونجده أيضاً في قول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول):

          {وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ}

 

          فهؤلاء مشركون وجبريون يزعمون أن الله قد شاء لهم أن يشركوا ، فأعلن الله أنهم يكذبون في دعواهم .

 

          إن قول المشركين : {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ، ولا حرَّمنا من دونه من شيء} ، مستند إلى ادعاء جبري يتضمن أن الله قد شاء لهم الإشراك به ، وشاء لهم عبادة غيره ، ولذلك كانوا مشركين به في عقيدتهم وفي عبادتهم ، ولذلك كذَّبهم الله في هذا الادعاء ، وأوعدهم بالعذاب فقال : {كذلك كذَّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} وأمر رسوله بأن يطالبهم بالدليل على ما ادعوه ، فقال له : {قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} ، أي : هل عندكم من خبر عن الله يثبت مدعاكم هذا؟ فإن كان عندكم شيء من ذلك تحتجون به فأخرجوه لنا ، ولكنكم في الحقيقة لا تعتمدون في ادعائكم هذا على أي مستند علمي ، وإنما تتبعون الظنون الكاذبة التي هي أوهام بعيدة عن الحقيقة ، فما أنتم في الحقيقة إلا تخرصون ، أي تكذبون .

 

          ثم علَّم الله رسوله أن يقول لهم : {قل : فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}، أي : إن الله قد شاء أن يمنحكم الإرادة الحرة ، ليمتحنكم في حدود ما وهبكم من استطاعة ، ولو شاء غير ذلك ، أي لو شاء أن يجعلكم مجبرين لا خيرة لكم فيما تقومون به من أعمال لكانت حكمته تقتضي بأن يهديكم أجمعين ، وفي هذا حجة عليهم بالغة صميم الحقيقة ، ولله الحجة البالغة .

 

          فالفكر الإسلامي قائم على أن الإنسان مسؤول عن أعماله ، ومحاسب علهيا ، ويُجازى عليها أيضاً ، لأنها داخلة في حدود استطاعته إذ وهبه الله حرية الإرادة ، والقدرة الجزئية على تنفيذ إرادته ، وأعطاه شروط الامتحان ، ووضعه في مجالات الامتحان الأمثل .

 

          هذه خلاصة العقيدة الإسلامية التي أوضحها القرآن حول موضوع القضاء والقدر ، وفهمها جمهور علماء المسلمين .

 

          ومن هذا يتبين لنا أن ما لا سلطة للإرادة الإنسانية والقدرات الإنسانية عليه هو الذي يقع مباشرة تحت سلطان القضاء والقدر ، وأن الله قد منح بقضائه وقدره الإنسان إرادته الحرة ، وعقله الذي يؤهله للتكليف , وجزءاً من القدرة على التنفيذ ، ليمتحنه ، ثم ليحاسبه ويجازيه.

 

          فهل في هذا المفهوم الصحيح تناقض أو إشكال في موضوع القضاء والقدر؟.

 

          لكن الملحدين لا يروق لهم البيان الحق عن الدين ، إنما يريدون مفاهيم فاسدة تنتشر بين المسلمين ليحاربوا الدين بها .

 

[1] لقد أوفيت بحث هذا الموضوع في كتاب "العقيدة الإسلامية وأسسها".

اضيف بواسطة :   admin       رتبته (   الادارة )
التقييم: 0 /5 ( 0 صوت )

تاريخ الاضافة: 26-11-2009

الزوار: 3273


المقالات المتشابهة
المقال السابقة
حول الشهب
المقالات المتشابهة
المقال التالية
التطورات العلمية هي التي تتراجع في اتجاه المفاهيم الدينية
جديد قسم مـقـالات الموقـــع
القائمة الرئيسية
البحث
البحث في
القائمة البريدية

اشتراك

الغاء الاشتراك