عرض المقال :هل تراجع الإسلام عن عقيدة من عقائده .
  الصفحة الرئيسية » مـقـالات الموقـــع » الرد على شبهات حول الإسلام » الرد على الشبهات العقلانية للملاحدة

اسم المقال : هل تراجع الإسلام عن عقيدة من عقائده .
كاتب المقال: الحقيقة

 

          يا سبحان الله!! يبدو أن الناقد (د. العظم) عالي الثقافة؟! فهولا يفقه معظم هذه الأسماء التي يغري أبناء المسلمين بأن يجحدوها ، عن طريق تساؤلاته الاستنكارية ، والظاهر أنه أخذها عن مكتوبات الماركسيين غير المسلمين ، ونقلها نقلاً ببغاوياً بالترجمة الحرفية ، دون أن يرجع إلى المصادر الإسلامية ويعرف دلالاتها منها ، ففي إيراده لهاروت وماروت ويأجوج ومأجوج على أنها كائنات غير مرئية كالجن والملائكة وإبليس جهل فاضح جداً ، فمن هذا الذي قال : إن هاروت وماروت ويأجوج ومأجوج مخلوقات غير مرئية كالجن والملائكة؟

 

          إن التخبط الفكري عند الملاحدة الذين يتصدون لمعارضة الحقائق الإلهية يجعلهم يرتكسون ارتكاساً فكرياً شائناً جداً ، ومن شأن الباطل أن يتخلى عن أنصاره ، ويسبب لهم الهزيمة الفكرية الفاضحة ، والحق لابد أن يعلو عليهم ويجعلهم هم وباطلهم زاهقين .

 

          نحن نعلم أن يأجوج ومأجوج[2] من القبائل البشرية الجاهلة المفسدة في الأرض ، وهم من سكان الشرق الأقصى وراء سد الصين . وكان سكان غرب الصين قد اشتكوا أمر إغارة قبائل يأجوج ومأجوج عليهم لذي القرنين ، الفاتح المؤمن العادل ، وطلبوا منه أن يقيم بينهم وبين قبائل يأجوج ومأجوج المفسدة في الأرض سداً عظيماً ، يحجز عن سكان غرب الصين غارات سكان شرقها ، مقابل خَرج يدفعونه له ، فوافق ذو القرنين على ذلك ، وطلب منهم أن يعينوه على ذلك بقوة رجالهم الكثيرين ، وبالمواد الموجودة في بلادهم ، وفعلاً أقام ذو القرنين لذلك السد العظيم , وحجز قبائل يأجوج ومأجوج ، وتعذر عليهم الظهور عليه واستئناف غارات الإفساد التي كانوا يغيرونها .

 

          فما علاقة هذه القبائل البشرية التاريخية بالغيبيات وبالكائنات غير المرئية؟.

 

          لو أنه قرأ سورة (الكهف) أو سمعها من المذياع ، أو لم يرد التضليل الديماغوجي لما سقط في هذه الفضيحة التي تعبر عن جهل كبير ، في موضوع يتصدى لنقده ومهاجمته ، بغية التبشير بمذهبه الإلحادي الكافر بكل القيم .

 

          أو لعله استغرب اسمي يأجوج ومأجوج فاعتبرهما كائنات غير مرئية كالجن والملائكة؟ إذا كان الأمر كذلك فالأسماء الغريبة عليه كثيرة في عالم الناس ، وفي عالم العلم ، فليجعلها كلها أسماء لكائنات غيبية غير مرئية كالجن والملائكة .

 

          ولكن هكذا يخبط خبط عشواء ، ويخلط خلط عمياء ، دون الرجوع إلى مصادر الدين الإسلامي ومعرفة المراد منها؟

 

          أهذه هي القواعد المنهجية في التمحيص والتفكير العلمي التي يطالب المؤمنين بها؟

 

          إذا كانت هذه هي قواعده فهيهات أن يصل إلى أية حقيقة من الحقائق ، وعليه أن يرتطم دائماً في حفر الجهالة والضلالة ، وما دام هذا مستواه فلا بد أن يسقط في حبائل المؤسسات الإلحادية في العالم ، وهي المؤسسات التي ترعاها وتديرها من وراء الأستار اليهودية العالمية ، لغاية في نفوس اليهود يريدون تحقيقها في شعوب الأرض .

 

          ونظير سقوطه في مسألة يأجوج ومأجوج في حفر الجهل الفاضح سقوطه أيضاً في مسألة هاروت وماروت.

 

          إن هاروت وماروت اسمان لشخصين وجدا قديماً في بابل ، وكانا على صورة آدمين يخاطبان الناس ، ويعلمانهم السحر الذي علمهما الله إياه ، ويأمران الناس بأن لا يكفروا بالله عن طريق تعلمهم السحر ، وعنهما توارث الناس علم السحر ، وقد أخبرنا الله في القرآن أنهما في حقيقة حالهما ملكان ظهرا على صورة آدميين ، على أن في كونهما ملكين وفي تعليمهما الناس السحر خلافاً عن المفسرين ، ومهما يكن من أمر فليسا كما زعم (العظم) نقلاً عن كتب الماركسيين أنهما من الكائنات غير المرئية ، بل كانا شخصيتين مرئيتين ،وكانت لهما قصة مشهورة في تاريخ الناس ، وتوارث الناس عنهما أو عن غيرهما علماً ما زالت له رواسب معروفة عند بعض المخصصين بعلم السحر ، وإذا كان يجهل ذلك فليسأل سحرة اليهود فإنهم يخبرونهم .

 

          وقد تعرض القرآن لقصتهما في معرض الكلام على بني إسرائيل في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول): فقال تعالى :

          {وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ

[1] اقتباساً من كتاب "الإسلام يتحدى".

[2] (يا غوغا ماغوغا) من القبائل المعروفة عند مؤرخي بلاد الصين.

يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}

 

          وهكذا ظهر لنا جهل (د. العظم) الفاضح في المسألة الثانية التي يردد ألفاظها ، وهو لا يعلم مضمونها ، ثم يتصدى لنقدها وفق تصور خيالي لديه .

 

          أما تساؤلها عن الملائكة والجن وإبليس فهذه فعلاً كائنات غير مرئية بالنسبة إلى مستواك إدراك الناس ، والملحد بالله وبالدين وبالأخبار الواردة في الدين الحق ينكر هذه الكائنات لأن العلم الحديث لا يملك حتى الآن أدلة إثبات لها .

 

          ولكن هل استقصى العلم المادي الحديث كل ما في الوجود من كائنات وأسرار ، حتى يدعي نفي وجود ما لم يشاهده بوسائله؟

 

          لو كان الأمر كذلك لكان على العلماء الباحثين أن يتوقفوا عن متابعة البحث ، الذي يضنون أنفسهم فيه لاكتشاف مجاهيل من الطاقات والكائنات الكونية التي يدركون أنهم ما يزالون يجهلونها ، لكنَّ هذا لا يدعيه عالم يقدر العلم ويحترم نفسه .

 

          إن العلوم الحديثة لا تملك حتى الآن أي دليل تستطيع أن تنفي به وجود الجن أو الملائكة ، بيد أن كثيراً من التجارب الإنسانية تثبت وجود كائنات خفية روحية غير مدركة بالحس ، وغير مدركة بالأجهزة العلمية ، على أن إنكار المنكرين لها لا يؤثر على وجودها شيئاً ، كما أن إنكار المنكرين لعالم الجراثيم والميكروبات المرئية وغير المرئية لا يؤثر على وجودها في العالم شيئاً .

 

          إن دليل المؤمنين على وجود الملائكة ، ووجود الجن مؤمنيهم وكافريهم وشياطينهم ومردته أخبار صادقة جاءت عن الله ، بطريق الوحي ، وبلَّغها الرسل الصادقون المؤيدون بالمعجزات ، كما شاهدوهم واتصلوا بهم بتجاربهم الخاصة ، فالمؤمنون بهم إنما يؤمنون تصديقاً لخبر الله الصادق ، ولأخبار الرسل الصادقين ، والقضية من أساسها تقع في دائرة الممكنات العقلية لا المستحيلات ، فالعمدة فيها الخبر الصادق ، على أن للناس تجارب كثيرة من هذا القبيل ، ولكن هذه التجارب ليست هي عمدة المؤمنين ، لأنها لم تصل إلى مستوى البرهان العلمي .

 

 

          يقول الناقد (د. العظم) في الصفحة (39) والتي تليها من كتابه:

 

          "من الآيات القرآنية التي يحب الموفقون ترديدها في معرض كلامهم عن انسجام الإسلام والعلم الحديث : الوصف القرآني التالي لأصل الإنسان وتكوينه : {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة * فخلقنا العلقة مضغة * فخلقنا المضغة عظاماً * فكسونا العظام لحماً * ثم أنشأناه خلقاً آخر * فتبارك الله أحسن الخالقين}".

[سورة المؤمنون: الآيات 12 -14]

 

          ثم قال تعليقاً على هذا النص القرآني ما يلي:

          "من الجلي أن عملية نمو الخلية البشرية بالنسبة إلى هذا الوصف القرآني تعتمد على التدخل المباشر والمستمر من قبل الله لنقلها من طور آخر ، أي إن نقلها من نطفة إلى علقة يحتاج إلى عملية خلق جديدة ، كما أن نقلها من طور العلقة إلى طور المضغة يحتاج كذلك إلى عملية خلق أخرى ...إلخ .

 

          وخلاصة القول هو أن نمو الخلية البشرية يشكل معجزة إلهية لا تعليل لها سوى قدرته المطلقة على الخلق ، وتدخله المباشر في سير أمور الكون . هل يتفق هذا الوصف والتعليل مع معارفنا العلمية عن الموضوع ، ومع ما يبينه لنا علم الأجنَّة حول تطور الخلية البشرية في مراحلها الأولى ؟ الجواب حتماً بالنفي ، لأن علم الأجنة لا يدع مجالاً للشك في أن الخلية تنمو بالتطور العضوي من طور إلى آخر ، وفقاً لقوانين طبيعية معينة ، بحيث تنمو المرحلة المتأخرة من صلب المرحلة السابقة عليها ، وعلى أساس معيطاتها الأولية ، كل ذلك بصورة تسمح لنا بالتنبؤ بتطور الخلية ، وبالمراحل المستقبلة التي ستمر بها ، وتمكننا من التحكم بنموها ، بحيث نستطيع تأخيره أو إسراعه أو تشويهه (إن شئنا ذلك) بتعريضها لمواد كيماوية معينة ، أو لأنواع محددة من الأشعة ، وكم كنت أود لو لم يكتفِ الموفقون الدينيون العمليون بمجرد الاستشهاد بالوصف القرآني لنمو الخلية ، وتعدوا ذلك لإيضاح رأيهم في كيفية انسجام هذا الوصف ، مع معارفنا العلمية الثابتة عن هذه الظاهرة الطبيعية".

 

          يبدو أن سيادة الناقد ومعه سائر الملحدين الماديين محرومون من منطق التطور العلمي الذي يمكن أن يهدم جميع قواعد إلحادهم ، ومحرومون أيضاً من المنطق العقلاني المتجرد الباحث عن الحقيقة .

 

          فحينما يكتشف العلماء ارتباط الظواهر الطبيعية بأسبابها الطبيعية التي تحتاج هي أيضاً إلى تفسير ، فهل يعني هذا إلغاء حقيقة الخلق الرباني الكامن وراء الأسباب الطبيعية؟ وحينما يقرر القرآن أن لله تبارك وتعالى هو الذي يخلق الأحداث الكونية ، فهل معنى ذلك أن عملية الخلق تأتي بشكل مباشر ، دون توسط قوانين وعلل وأسباب أوجدها الله في نظام الطبيعة ، واختار أن يكون أسلوبه في عملية الخلق كذلك . إن من يرفع الشيء بيده مباشرة يقال عنه : قد رفعه ، ومن يرفعه بوساطة حبل يقال : قد رفعه ، ومن يرفعه بوساطة سبب غير مرئي كقوة كهربائية أو مغناطيسية يقال : قد رفعه ، والخلق يكون بشكل مباشر ، ويكون عن طريق القوانين والأسباب والعلل غير الفاعلة بذاتها .

 

          فكلام (العظم) القائم على تصور أن النص القرآني لا يعترف بنظام الأسباب والعلل والقونين الطبيعية كلام فاسد من الوجهة العقلية البحتة ، لأن الخلق لا يقتضي دائماً أن يكون عملية مباشرة ، دون أن توجد أسباب اختارها الخالق ليتم عن طريقها أسلوبه في الخلق .

 

          فليكتشف الباحثون ما شاءوا أن يكتشفوه من قوانين وعلل طبيعية وأسباب ، فإن هذه كلها لا تملك الفعل الذاتي ، وهي بحد ذاتها تحتاج إلى تفسير ، والخالق العظيم القادر العليم الحكيم هو القوة الحقيقية الكامنة وراء جميع الأحداث الطبيعية ، وإن أراد الملاحدة الماديون الوقوف عند الأسباب ، وإقفال عيونهم عما وراء الأسباب التي اكتشفوها ، وإن أرادوا جحود الخالق العظيم .

 

          وبهذا يظهر لنا ما في كلامه من مغالطة وتضليل وتفسير غير صحيح للنص القرآني ، وهذا من وجهة نظر المنطق العقلاني المجرد .

 

          ثم نقول من ناحية أخرى : لقد توصل العلم الحديث إلى أن القوانين العلمية لا تملك التفسير الكامل للأحداث الكونية ، وإنما تكشف عن حلقة من الحلقات السببية لا غير ، وهي بحد ذاتها بحاجة إلى تفسير .

 

          يقول العلامة الفلكي الرياضي البريطاني السير (جيمس جينز) كلاماً يعلن فيه هذه الحقيقة ، وهذه مقتطفات من أقواله:

 

          "إن الكون كون فكري . الكون لا يقبل التفسير المادي في ضوء علم الطبيعة الجديدة ، وسببه – في نظري – أن التفسير المادي قد أصبح الآن فكرة ذهنية .

 

          من الصحيح أن نهر العلم قد تحول إلى مجرى جديد في الأعوام الأخيرة ...

 

          لقد كنا نظن قبل ثلاثين سنة – ونحن ننظر إلى الكون – أننا أمام حقيقة من النوع الميكانيكي .

          إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم ، تلك التي كنا أقمناها على عجل . لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة".

 

          ألا فليعد (العظم) دراسته ، وليراجع أفكاره وفق ما تطور إليه العلم الحديث ، وحسبه تجديفاً في المستنقعات النتنة القذرة .

 

          أما قوله : "إن نمو الخلية يخضع لقوانين تمكننا من التحكم بنموها ، بتأخيره أو إسراعه أو تشويهه" فهو لا يتعارض بحال من الأحوال مع العقيدة الإيمانية ، لأننا جميعاً في حياتنا على وجه الأرض لا في عالم الأجنة نخضع لقوانين ربانية تمكننا من التحكم بعض الشيء بنمو أجسادنا أو تشويهها أو إتلافها ، نظير تحكمنا بالأجنة ، والإنسان القديم يعلم هذا كل العلم ، ولا يجد فيه معارضة لنظام الخلق الرباني ولا لقاعدته العامة . فالمؤمن يعلم أن لكل ظاهرة سبباً يخضع لسنَّة الله في كونه ، ويعلم أن الخلاق الحقيقي من وراء الأسباب هو الله تعالى ، إن القضية في نظره تشبه عملية إدارة زر الكهرباء التي يضيء المصباحُ بسببها ، ولكن السبب الحقيقي في الإضاءة هي القوة الكهرباء التي يضيء المصباحُ بسببها ، ولكن السبب الحقيقي في الإضاءة هي القوة الكهربائية السارية ، ومن ورائها المولد الكهربائي ، ومن ورائه صانع هذا المولد ومديره ، ولو شاء لقطع التيار الكهربائي من عنده فلم يكن لإدارة الزر الكهربائي الفرعي أي أثر ، ولانعدمت بذلك كل الظواهر ، ولم يكن للأسباب الوسيطة أية قيمة .

 

          هذا هو منطق المؤمنين ، وذلك هو سخف الملحدين .

 

 

          من العجيب أن نجد الناقد (د. العظم) ينكر على الباحثين الإسلاميين دعوتهم المسلمين إلى الأخذ بأسباب العلم في كل مجال من مجالات المعرفة ، ويرى أن الإسلام يدعو فقط إلى تعلم علوم الدين ،أما العلوم الأخرى فإنه لا يهتم بها ولا يشجع عليها ، ويرى أن الذين يقولون: إن الإسلام يحث على تعلم كل العلوم النافعة موفقون خطابيون ، يحاولون أن يثبتوا الانسجام بين الإسلام والعلم بوسائلهم الخطابية ، دون براهين صحيحة ، ثم يزعم أن كل النصوص الإسلامية التي دعت إلى العلم والعقل والتفكر موجهة فقط إلى العلوم الدينية والشرعية وما يتعلق بها ويتفرع عنها ، لا إلى الفيزياء والكيمياء وغيرهما من العلوم الطبيعية.

 

          يقول في الصفحة (40) والتي بعدها من كتابه:

 

          "من الأقوال التي يرددها الموفقون الخطابيون لإثبات دعواهم الحديث النبوي القائل : "اطلب العلم ولو في الصين" والآيات القرآنية العديدة التي تحث الإنسان على التعقل والتأمل في الأشياء وطلب العلم والمعرفة ، إلى آخره مما هو معروف ، كل ذلك ليبينوا مدى اهتمام الإسلام بالعلم والعقل منذ القدم .بطبيعة الحال يعطي هؤلاء المفكرون معنى مطلقاً لهذه العبارات الإسلامية ، وكأنها لا تنتمي إلى أي زمان ومكان ، منفصلة عن الظروف التاريخية التي قيلت فيها ، والمناسبات التي حددت معناها ومغزاها وقتئذٍ . من ضمن هذا الاعتبار يتضح لنا أن العلم الذي حث على طلبه الإسلام هو في جوهره العلوم الدينية والشرعية وما يتعلق بها ويتفرع عنها ، وليس الفيزياء والكيمياء مثلاً (راجع كتاب العلم في الجزء الأول من "إحياء علوم الدين")، والعقل الذي طلب الإسلام من الإنسان استخدامه كان الغرض منه التوصل إلى معرفة الله من تأمل صنعته وخلقته ، كما فعل حي بن يقظان في قصة ابن طفيل ، وليس الغرض منه صياغة نظرية المادية الجدلية ، أو نظرية دوركهايم في الطقوس والعبادات الدينية ، أو نظرية الكون المحدب".

 

          لست أدري أي شيء يزعجه إذا كان الإسلام فعلاً يحث على تعلم كل العلوم الدينية والطبيعية والعقلية؟

 

          لكن يبدو أن هذه الحقيقة تؤثر جذرياً على دعوة الإلحاد التي تحاول أن تتخذ من العلم دريئة لها ، وتحاول أن تقنع الأجيال بأن الدين والحقائق العلمية على طرفي نقيض ، لتصرفهم عن الدين وتضمهم إلى جيوش الملحدين ،يضاف إلى ذلك أن الملحدين يخشون أيضاً من دخول الإسلام والمسلمين إلى معاقل العلم الصحيح ، لأن هذا الدخول يشكل خطراً حقيقياً على قضية الإلحاد من أساسها ، إذ يكشف الباحثون المسلمون عن طريق العلم الصحيح زيف المادية الإلحادية التي تتستر بالعلم ، وتزييف ما يستطيع تزييفه لدعم مذهبها الذي ليس له سند صحيح من علم صحيح ، ولا من واقع مشهود .

 

          وفي مناقشة كلامه القائم على المغالطة التضليلية نقول:

          أما كون الإسلام قد جعل أشرف العلوم ما يصلح حياة الإنسان ويقوِّم سلوكه ، ويقصره على طريق الخير مبتعداً عن طريق الشر لاغتنام أعظم قدر يستطاع اغتنامه من سعادة الحياة الدنيا ، وما يُعدُّه أحسن إعداد لسعادة الحياة الأخرى ، فهذا حق .

 

          وأما كون الإسلام لم يحث على تعلم العلوم الطبيعية المادية ، التي من شأنها أن تحقق المنافع الحسنة للناس ، وتخدم قضايا الرفاهية والجمال والقوة والراحة واختصار الزمن وتنظيم الحياة ، فهذا باطل .

 

          فمنذ النهضة الفقهية عند علماء المسلمين قرر الفقهاء أنه يجب على جماعة المسلمين تعلم جميع العلوم النافعة للناس ، بما في ذلك العلوم الصناعية ،فضلاً عن العلوم الضرورية كالطب والزراعة ، والعلوم المتصلة بإعداد المستطاع من القوة ، وقرروا أن هذا واجب على الكفاية ، تقع فيه المسؤولية على جماعة المسلمين عامة ، فإذا قام به البعض سقط الطلب عن الباقين ، وإذا لم يقوموا به أثموا جميعاً ، واستنبطوا حكمهم هذا من مصادر التشريع الإسلامي ، ونصوصه الرئيسية ، والإمام الغزالي من الذين قالوا بهذا وقرروه على خلاف ما أوحى به (العظم) إذ قال في غضون ما غالط به : (راجع كتاب العلم في الجزء الأول من "إحياء علوم الدين"، للإمام الغزالي).

 

          فدعوى (العظم) باطلة في نظر فقهاء المسلمين ، والإمام الغزالي في الإحياء قد وجه إلى أشرف العلوم ، ولم يقل : إن طلب العلم الذي حثَّ عليه الإسلام منحصر في العلوم الدينية والشرعية ، والغزالي نفسه تتبع معظم العلوم المعروفة في عصره فدرسها ، وكتب في كثير منها ، وواقع حال علماء المسلمين في عصورهم الأولى يكذِّب هذه الدعوى التي طرحها ، فقد كانوا بحق طلائع النهضة العلمية الحضارية ، بشهادة أساطين علماء الحضارة الحديثة ، وما أظن (العظم) أكثر فهماً منهم لنصوص الإسلام وما يستنبط منها من أحكام دينية ومفاهيم إسلامية!!.

 

          أما كون دراسة مختلف العلوم الطبيعية هادية لهم إلى معرفة الله وعظيم قدرته وبديع صنعته فهو يمثل النظر البعيد إلى آخر حلقة في سلسلة المعارف الطبيعية ، ولكن هذا النظر البعيد يجعلهم يتابعون حلقات السلسلة حتى غايتها ، ضمن حدود الاستطاعة الإنسانية التي تتهيأ لهم ، وليس من شأنه أن يقف بهم عند الحلقات الأولى ، لأن الإسلام يحثهم على المتابعة والنظر في كل مراحل الطريق ، وبذلك يستطيعون استخراج كل ما ينفع من حقائق علمية .

 

          ومعلوم أن الإسلام يحرص دائماً على الربط بين العلم والإيمان ، بين العلم والغاية المثلى منه ،كما يحرص على الربط بين الدنيا والآخرة ، بين العمل وغاية الخير منه ، بين اللذة والمنعم بها وغاية الخير من ورائها ،وبذلك يظهر كمال الإنسان .

 

          ولست الآن في صدد إيراد النصوص الدينية ، التي تثبت أن الإسلام يدفعنا بقوة إلى البحث العلمي في الكون ، للتعرف على كل حقيقة علمية ، لذلك أكتفي بعرض طائفة يسيرة منها .

 

          ( أ ) قال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

          {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ...}.

 

          (ب) وقال في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول):

          {ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً منْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

 

          ( ج ) وقال في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول):

          {وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}.

 

          أليس في هذه النصوص دعوة إلى التعرف على خصائص الأشياء للانتفاع منها؟ وهل يمكن التعرف على خصائصها إلا بالبحث العملي ، عن طريق الملاحظة والتجربة والاستنباط وكل الوسائل التي تتيسر للإنسان؟[1]

 

          ولكن الملحدون يريدون أن يخترعوا للإسلام صورة من عند أنفسهم ، لينفروا الناس منه ، وليشوهوا جماله وكماله وتقدميته الرائعة ، ولن يظفروا .

 

[1] انظر لاستكمال هذا الموضوع كتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" ، للمؤلف .

الصفحات[ 1] [2]
اضيف بواسطة :   admin       رتبته (   الادارة )
التقييم: 1 /5 ( 1 صوت )

تاريخ الاضافة: 26-11-2009

الزوار: 5436


المقالات المتشابهة
المقال السابقة
منهج الإسلام عند اختلاف وسائل المعرفة في النتائج
المقالات المتشابهة
المقال التالية
حول المعجزات
جديد قسم مـقـالات الموقـــع
القائمة الرئيسية
البحث
البحث في
القائمة البريدية

اشتراك

الغاء الاشتراك