العقل عند الفلاسفة ():
فأما الفلاسفة فقد كثر اضطرابهم في ذلك كحالهم في كل قضية يناقشونها فالعقل عندهم يطلق على عدة معاني منها :
1- العقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها ().
وهذا الجوهر ليس مركباً من قوة قابلة للفساد، وإنما هو مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله.
2- العقل قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا ، فهو قوة تجديد تنتزع الصور من المادة، وتدرك المعاني الكلية ولهذه القوة عندهم مراتب :
أ- مرتبة العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، ونسب إلى الهيولي لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولي الأولى الخالية في حد ذاتها من الصور كلها والعقل الهيولاني مرادف للعقل بالقوة، وهو العقل الذي يشبه الصفحة البيضاء التي لم ينقش عليها شيء بالفعل.
ب- مرتبة العقل بالملكة، وهو العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.
ج- مرتبة العقل بالفعل : وهو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد لكنها لا تشاهدها بالفعل .
د- مرتبة العقل المستفاد : وهو أن تكون النظريات حاضرة عند العقل لا تغيب عنه ().
وعند هذا العقل الأخير يتم النوع الإنساني ، وكل عقل من هذه العقول قد يكون عقلاً بالقوة بالنسبة إلى ما فوقه، وعقلاً بالفعل بالنسبة إلى ما تحته، ولا يتم له الانتقال من القوة إلى الفعل إلا بواسطة عقل مفارق هو دائماً بالفعل ، وهو العقل الفعال()، ومنزلته فوق العقل الإنساني تفيض عنه الصور على عالم الكون والفساد فتكون موجودة فيه من حيث هي فاعلة، أما في عالم الكون والفساد فهي لا توجد إلا من جهة الانفعال، ، وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالعقل الفعال كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالعقل القدسي.
وهذا كله مأخوذ من قول أرسطو() (إن العقل الفاعل هو العقل الذي يجرد المعاني أو الصور الكلية من لواحقها الحسية الجزئية على حين أن العقل المنفعل هو الذي تنطبع فيه هذه الصور) .
وقد اختلف شراح أرسطو في هذا العقل الفاعل، أو الفعال المفارق للمادة.
1- فذهب الاسكندر الأفروديسي إلى أن هذا العقل الفعال هو الله ، لأن الله عقل محض مفارق للمادة عند أرسطو، وكذلك هذا العقل ، وهو التأويل الذي اختارته المدرسة الأوغسطينية عامة في العصور الوسطى.
2- وذهب متفلسفة الإسلام إلى أن هذا العقل هو أحد العقول أو الجواهر المفارقة التي تحرك الأجرام السماوية وبناء عليه أسندوا إليه ثلاث وظائف كبرى : تحريك عالم ما تحت القمر ، إفاضة الصور العقلية على النفس، فإفاضة الصور الجوهرية على الموجودات مطلقين عليه من جراء ذلك اسم ((واهب الصور)) .
3- وذهب فريق ثالث ، وعلى رأسهم ثامسطيوس (317-388م) والقديس توما الاكويني (1225-1274م) إلى أنه قوة من قوى النفس ().
4- وذهب يوسف كرم إلى أن عبارة العقل الفعال من كلام الشراح وابتداعهم بسبب غموض كلام أرسطو في هذا المجال(). ومهما يكن فالخلاف حاصل بينهم لا محالة لأنهم يمشون على غير هدى من الله .
وينتهي أرسطو إلى القول بأن هناك علة أولى أو المبدأ الأول ويصفه بأنه عقل محض وعاقل ومعقول. وقد عجز في نهاية الأمر عن بيان كيفية الاتصال بين العالم الحسي والعقل الإلهي الذي تصوره ، وهذا شأن الفلاسفة كلهم فهم يبنون أفكارهم على خيالات ذهنية لأنهم اعتمدوا على عقولهم وتركوا دعوة الرسل جانباً .
ولهذا نرى من جاء بعد أرسطو من الاسكندرانيين وعلى رأسهم أفلوطين وجدوا هذا التناقض العظيم بين الفلاسفة فكل منهم يخطئ الآخر، فحاولوا إصلاح تلك الفلسفة الفاسدة، وانتهى أمرهم إلى الإخفاق مثل غيرهم ، وكان من ضمن محاولات أفلوطين للجمع بين رأي أفلاطون وأرسطو، القول بنظرية الفيض، وهي النظرية التي تبناها الفارابي فيما بعد ثم ابن سينا، حتى شاعت بين فلاسفة التصوف أمثال ابن عربي وابن سبعين .
ونظرية الفيض: عبارة عن تصوير صدور الموجودات عن الله أو صدور الكثرة عن الواحد.
ويرى هؤلاء (). أن إحداث الأشياء ما هو إلا انتشار ما في العلة الأولى من القدرة على التعقل والتأثير مع بقاء ذاتها على ما كانت عليه من السكون والكمال المتعالي عن كل نوع من التغيير والحركة ، فإذا قيل : وما الباعث الذي حمل تلك العلة على إحداث العالم ؟
الجواب : أنها لم تكن محتاجة إلى العالم، بل كان ذلك لما فيها من الجود وإفراط القدرة .
ثم قال أفلوطين() : لو لم يكن للعالم وجود، لما وجد في ذات المبدأ فرق.
فهو إذاً غير محتاج إلى العالم، مع شدة احتياج العالم إليه ، غير أنه لا يتصور في القدرة إذا بلغت أشدها وأدركت من الكمال غايته أن تبقى في نفسها منحازة معطلة، بل لا تأثير لها ولا فعل ، وهذا حال العلة الأولى فإنها لما لها من الكمال لا تبقى معطلة بل لابد أن تفيض قوتها فيضان الماء من العين الغزيرة وانتشار النور من الشمس .
فالوجود عند أفلوطين وشيعته ينحصر في أصل واحد هو : العقل الفائض من العلة الأولى ، وما يفيض من العقل من مراتب الموجودات، فالكل أنوار عقلية أي : قوى إلهية انعكست ببعضها عن بعض يتناقص نورها شيئاً فشيئاً بقدر ما تباعدت عن المنبع الأولى إلى أن ينتهي هبوطها إلى رتبة يكاد أن ينعدم فيها النور بالكلية وهي المادة، وتلك عبارة عن الظلام وهو العدم، أي سلب التعيين وفقدان الوجود، فما العالم إلا إبراز ما كان مكنوناً من القوى في العلة الأولى، لا زال معلقاً بها كالظل بالشخص ، وكالنور بالشمس، والإله محيط به من جميع أكنافه، حال في جميع أجزائه كما يقع نور الشمس على الأرض .
ويقول أفلوطين أيضاً : ينبغي أن نعلم أن الأشياء الطبيعية متعلق بعضها ببعض، فإذا فسد بعضها صار إلى صاحبه علو إلى أن يأتي الأجرام السماوية، ثم النفس ، ثم العقل، فالأشياء كلها ثابتة في العقل، والعقل ثابت بالعلة الأولى، والعلة الأولى بدء لجميع الأشياء ومنتهاها ().
تلك هي نظرة هؤلاء الفلاسفة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي نظرة تخالف عقيدة التوحيد وتناقضها ولا تلتقي معها أبداً، فهم قد جردوا الإله عن أسمائه الحسنى وصفاته العلى وخاصة صفة الخلق وجعلوا وجوده مجرد وجود في الذهن فقط.
وقد أخذ متفلسفة الإسلام تلك الآراء الفلسفية وهذبوها وشرحوها وحاولوا مزجها بالشريعة الإسلامية، ومن ذلك نظرية الفيض أو الصدور التي قال بها أفلوطين وشيعته من الاسكندرانيين، وأخذها عنهم هؤلاء المتفلسفة ممن حاول الجمع بين الشريعة والفلسفة وجعلوا الفيض أو الصدور الذي عناه هؤلاء الفلاسفة هو معنى صفة الخلق لله التي نزل بها القرآن ، ومن هؤلاء الفارابي، وابن سينا .
يرى ابن سينا أن الإله عقل محض، يعقل ذاته، ففعله الأول أنه يعقل نظام الخير في الوجود وكيف ينبغي أن يكون، لا عقلاً خارجاً من القوة إلى الفعل، ولا عقلاً متنقلاً من معقول إلى معقول بل عقلاً واحداً معاً، ولما كان التعقل علة للوجود كان من الضروري أن يصدر عن تعقل الإله لذاته معلول أول هو أيضاً عقل، وهذا العقل الأول واجب بالإله ممكن بذاته وهو أيضاً يعقل الإله ويعقل ذاته ، فإذا عقل الإله لزم عنه بما يعقله وجود عقل ثان تحته، وإذا عقل ذاته صدر عن تعقله لها وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها وهي النفس، ووجود جرمية الفلك الأقصى، فالنفس تصدر عن تعقله لذاته واجبة الوجود بالإله، والجسم يصدر عن طبيعة إمكان الوجود المتدرجة من تعقله لذاته، فهناك إذن ثلاثة أشياء تفيض عن العقل الأول، العقل الثاني، وجرم الفلك الأقصى، وصورته التي هي النفس، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود .
والعقول المفارقة كثيرة العدة، إلا أنها ليست موجودة معاً عن الإله بل يجب أن يكون أعلاها العقل الأول ، ثم يتلوه عقل ثان وثالث، ولا يزال هذا التعقل ينتج عقولاً، ونفوساً، وأفلاكاً، حتى ينتهي الإبداع عند العقل العاشر، وهو العقل الفعال المدبر لعالم الكون والفساد.
فالأمور السماوية تؤلف إذن سلسلة ، كل حلقة منها تتضمن ثلاثة أشياء: العقل، والنفس، والفلك .
والإله لا يبدع إلا العقل الأول، وهذا العقل الأول يلزم عنه ثلاثة أشياء: العقل الثاني، والفلك الأقصى، ونفسه.
والعقل الثاني يلزم عنه ثلاثة أشياء : العقل الثالث، وفلك الكواكب الثابتة وصورته التي هي النفس وهكذا إلى أن ينتهي الفيض إلى فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض ().
فابن سينا كغيره من الفلاسفة يرى أن الموجودات صدرت عن الله لا على سبيل القصد والاختيار بل ضرورة.
ولا شك أن كل عاقل يدرك بطلان تلك النظرية وفسادها ومنافاتها للفطرة السليمة التي لم تتلوث بالآراء الفلسفية، وقد قوبلت تلك النظرية وغيرها بالاستخفاف والاستهزاء من جانب العلماء فنجد مثلاً ابن خلدون يقول() : (إن هذا الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه، فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول، واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب، فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك، ويخلق ما لا تعلمون) .
ونجد الغزالي مع أخذه بالفلسفة أحياناً ، يستنكر تلك النظرية فيقول() : (ما ذكرتموه تحكمات، وهو على التحقيق ظلمات فوق ظلمات لو حكاه الإنسان في نومه عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه).
والحق أن تلك الآراء ما هي إلا امتداد للوثنية القديمة التي ترى أن الكواكب أجسام سماوية، وأن لها نفوساً تحركها وأن لحركاتها تأثيراً في نفوسنا وأجسامنا، وكل كوكب يعتبر إلهاً عندهم، فالمريخ مثلاً إله الغضب، والشمس إله الحرارة، والقمر إله الرطوبة، وقد حكى القرآن ذلك عن قوم إبراهيم قال تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون* أئفكاً ألهة دون الله تريدون* فما ظنكم برب العالمين* فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) .
قلت : والذي عليه علماء المسلمين من أقوالهم –أي الفلاسفة- أن العقل جوهر مجرد قائم بنفسه. قال شيخ الإسلام عنهم ((ولفظ العقل والمادة ونحوهما في كلامهم غير معناه في لغة العرب فإنهم يعنون بالعقل جوهراً مجرداً قائماً بنفسه. والعقل في لغة العرب عَرَض هو علم أو عمل بالعلم وغريزة تقتضي ذلك)) () .
وهذا القول الذي امتاز به فلاسفة اليونان في العقل دعاهم إليه دعوى تنـزيه الإله أو الخالق عن أن تصدر عنه الكثرة المشاهدة في المحسوسات فاخترعوا لأجل ذلك قضية توالد العقول وتعاقبها والتي منها هذا العقل المزعوم الذي يشترك فيه الناس. ثم جاء فلاسفتنا فزادوا طينة هذا القول المضحك بلّة فتعسفوا التأويلات واحتجوا بالمأثورات الشاذة والموضوعة ليدللوا على أقوال أولئك الفلاسفة الوثنيين بدعوى الجمع بين الدين والفلسفة لئلا يعارض أحدهما الآخر فالأصل عندهم هو أقوال البشر من الفلاسفة فهي الأقوال المقدمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها . فينبغي حمل ما تيسر من النصوص الإسلامية وقسرها كرهاً على أن تدل على تلك الأقوال ذراً للرماد في أعين عامة المسلمين أن لا يتهمونا بشيء من المروق والإلحاد إن نحن أعرضنا عن نصوصهم ومأثوراتهم كلية !
قال الدكتور موسى الدويش ((حيث أن هؤلاء المتفلسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد ومن هو على شاكلتهم مؤمنون بالفلسفة إيماناً كاملاً وكأنها وحي منزل لذا قاموا بإبراز أفكار من سبقهم من الفلاسفة وخاصة أرسطو وأتباعه أصحاب الفلسفة المشائية، ولما كانت تلك الآراء الفلسفية تناقض الحقائق الدينية ولا تلتقي معها أبداً حاول هؤلاء المتفلسفة التوفيق بينهما وذلك بإخضاع النصوص الشرعية وتأويلها وتحريفها حسب أهوائهم ومحاولة تطبيق الاصطلاحات الفلسفية على المسميات النبوية وكان أفضل طريق يحقق هدفهم هذا هو سلوكهم طريق الباطنية في تحريف النصوص فجمع هؤلاء بين التفلسف والقرمطة)) () .
وقال أيضاً ((إن محاولة الجمع أو التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة قديمة فهناك فئة من الناس اغترت بعقولها فذهبت تشرع للناس الشرائع في كل فن حتى وإن خالف شرع الله الذي جاءت به الرسل . وعندما اصطدمت تلك الآراء البشرية بشرع الله المنزل ظهرت فكرة الجمع بين الدين وتلك الآراء البشرية ومن هؤلاء فلاسفة اليونان قديماً . ثم جاء فيلون اليهودي() فجعل شريعة نبي الله موسى أساس الفلسفة . فذكر أن الكائنات بادئة من الله ونازلة إلى المادة وتتحد في الكلمة الإلهية ((لوجوس)) التي عنها فاضت الكائنات().
وفي النصرانية جاء كليمنتس() فذكر أن الفلسفة في ذاتها ليست شراً فالمعرفة معرفتان:
إحداهما : عن طريق الوحي، بدأت في العهد القديم، واكتملت في العهد الجديد.
والثانية: عن طريق العقل الطبيعي، وهي التي جاء بها فلاسفة اليونان.
وذكر أيضاً: أن تاريخ المعرفة الإنسانية يشبه مجرى نهرين عظيمين : الناموس اليهودي، والفلسفة اليونانية، وقد تفجرت المسيحية عند ملتقى هذين النهرين.
فالناموس لليهود.
والفلسفة لليونان.
والناموس والفلسفة والإيمان للنصارى .
والفلسفة ليست متنافرة مع الإيمان، لأن لكل إنسان مزية تفرق بينه وبين الحيوانات العجم، وهذه المزية هي : الحكمة، وهي تدعي فكراً من حيث أنها تعرف المبادئ الأولى، وتدعي علماً ومعرفة من حيث أنها تستند إلى هذه المبادئ لتتوصل إلى المعرفة البرهانية، وهي تصبح ((تقنة)) إذا عالجت القضايا العلمية، وتصبح إيماناً عندما تنفتح على التقوى، وتؤمن بالكلمة وتقودنا نحو الخضوع لوصاياه تعالى، وهي في جميع مظاهرها هذه تظل واحدة لا تتعدد() .
وجاء أوريجنس() فحاول أن يؤيد العقيدة المسيحية ببيان اتفاقها مع الفلسفة اليونانية فكان بذلك واضع الأساس لفلسفة العصور الوسطى().
إن محاولات الجمع بين الشرائع السماوية السابقة وبين الفلسفة من جانب هؤلاء أدى إلى تحريف الدين والعقيدة الصحيحة التي جاءت بها الرسل، ولهذا دخل التحريف على التوراة والإنجيل وأصبح لكل فرقة كتاب يخصهم وعمت الفوضى الفكرية تلك الديانات وتسرّب الإلحاد إليها بسبب تلك المحاولات وغيرها.
............................