بشارات الإنجيل بنبي الإسلام
قال الإمام العلامة ابن القيم : فصل نصوص من الإنجيل [ في البشارة بنبي الإسلام ]
ما في الإنجيل إن المسيح قال للحواريين : " إني ذاهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق ، لا يتكلم من قبل نفسه ، إنما هو كما يقال له ، وهو يشهد على وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس ، وكل شئ أعده الله لكم يخبركم به "
فصل نصوص خاصة بكلمة فارقليط :
وفي إنجيل يوحنا : "الفار قليط لا يجيئكم ما لم أذهب ، وإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة ، ولا يقول من تلقاء نفسه ولكنه مما يسمع به ، ويكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب " .
وفي موضع آخر : " إني سائل له أن يبعث إليكم فار قليطا أخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء ".
وفي موضع آخر : " ابن البشر ذاهب والفار قليط من بعده يجئ لكم بالأسرار ويفسر لكم كل شئ وهو يشهد لي كما شهدت له فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل " . قال أبو محمد بن قتيبة : وهذه الأشياء على اختلافها متقاربة وإنما اختلفت لأن من نقلها عن المسيح صلى الله عليه وسلم في الإنجيل من الحواريين عدة والفار قليط بلغتهم لفظ من ألفاظ الحمد ، إما أ حمد أو محمد أو محمود أو حامد أو نحو ذلك ، وهو في الإنجيل الحبشي : برنعطيس .
وفي موضع آخر : " إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد ويتكلم بروح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما إني سآتيكم عن قريب " .
وفي موضع آخر : " ومن يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتحد المنزل ، كلمتكم بهذا لأني لست عندكم مقيما ، والفار قليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شئ ، وهو يذكركم كل ما قلته لكم ، استودعتكم سلامي ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم ، لو كنت تحبوني كنتم تفرحون ، فإن ثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدون " .
وفي موضع آخر : إذا جاء الفار قليط الذي أبي يرسله روح الحق الذي أبي يشهد لي ، قلت لكم حتى إذا كان تؤمنون ولا تشكون فيه .
وفي موضع آخر : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون عمله ، لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب .
قال يوحنا : قال المسيح : إن أركون العالم سيأتي وليس له في شئ .
قال متى قال المسيح : ألم تروا أن الحجر الذي أخره البناؤون صار أساً للزاوية من عند الله ، كان هذا وهو عيب في أعيننا ، ومن أجل ذلك أقول لكم أن ملكوت الله سيؤخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى تعطي ثماره ، ومن سقط على هذا الحجر ينشدخ ، وكل من سقط هو عليه يمحقه .
في معنى كلمة الفار قليط :
وقد اختلف في الفار قليط في لغتهم فذكروا فيه أقوالا ترجع إلى ثلاثة :
أحدها أنه الحامد والحماد أو الحمد كما تقدم ، ورججت طائفة هذا القول ، وقال الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم أنه الحمد . والدليل عليه قول يوشع : من عمل حسنة يكون له فار قليط جيد . أي حمد جيد .
والقول الثاني : وعليه أكثر النصارى أنه المخلص والمسيح نفسه يسمونه المخلص ، قالوا وهذه كلمة سريانية ومعناها المخلص ، قالوا : وهو بالسريانية فاروق فجعل ( فارق ) ، قالوا و( ليط ) كلمة تزاد ، ومعناها كمعنى قول العرب : رجل هو ، وحجر هو ، وفرس هو . قالوا : فكذلك معنى ( ليط ) في السريانية .
وقالت طائفة أخرى من النصارى : معناه بالسريانية المعزي قالوا وكذلك هو في اللسان اليوناني . ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم يكن لغته سريانية لا يونانية بل عبرانية ، وأجيب عن هذا بأنه يتكلم بالعبرانية ، والإنجيل إنما نزل باللغة العبرانية وترجم عنه بلغة السريانية والرومية واليونانية وغيرهما ، وأكثر النصارى على أنه المخلص ، والمسيح نفسه يسمونه المخلص ، وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال : إنما أتيت لأخلص العالم والنصارى يقولون في صلاتهم : لقد ولدت لنا مخلصا .
ولما لم يمكن النصارى إنكار هذه النصوص حرفوها أنواعا من التحريف ، فمنهم من قال : هو روح نزلت عل الحواريين ، ومنهم من قال : هو ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا بها الآيات والعجائب ، ومنهم من يزعم أنه المسيح نفسه لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما وكونه قام من قبره ، ومنهم من قال لا يعرف ما المراد بهذا الفار قليط ولا يتحقق لنا معناه .
ومن تأمل ألفاظ الإنجيل وسياقها علم أن تفسيره بالروح باطل ، وأبطل منه تفسيره بالألسن النارية ، وأبطل منهما تفسيره بالمسيح ، فإن روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده وليست موصوفة بهذه الصفات، وقد قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت لما كان يهجو المشركين :( اللهم أيده بروح القدس ).
وقال : ( إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه ).
وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فار قليطا علم أن الفار قليط أمر غير هذا .
وأيضا فمثل هذه الروح لا زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون وما بشر به المسيح ووعد به أمر عظيم يأتي بعده أعظم من هذا .
وأيضا فإنه وصف الفار قليط بصفات لا تناسب هذا الروح وإنما تناب رجلا يأتي بعده نظيرا له ، فإنه قال : " إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد " فقوله فار قليطا آخر دل على أنه ثان لأول كان قبله ، وأنه لم يكن معهم في حياة المسيح وإنما يكون بعد ذهابه وتوليه عنهم .
وأيضا فإنه قال : يثبت معكم إلى الأبد وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته بل بقاء شرعه وأمره ، والفار قليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى البد ، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بل يبقى إلى الأبد بخلاف الأول ، وهذا إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم .
وأيضا فإنه أخبر أن هذا الفار قليط الذي أخبر به ويشهد له ويعلمهم كل شئ وأنه يذكر لهم كل ما قال المسيح وأنه يوبخ العالم على خطيئته فقال : والقار قليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شئ وهو يذكركم كل ما قلت لكم ، وقال إذا جاء الفار قليط الذي أبي يرسله هو يشهد أني قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنون به ، ولا تشكوا فيه ، وقال أن خيرا لكم أن أنطلق إلى أبي ، إن لم أذهب لم يأتكم الفار قليط ، فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فهو يوبخ العالم على الخطيئة ، فإنه لي كلاما كثيرا أريد أن أقوم لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذ جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب .
فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على أمر معنوي في قلب بعض الناس لا يراه أحد ولا يسمع كلامه . وإنما تنطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه ، فيشهد للمسيح ، ويعلمهم كل شئ ، ويذكرهم بكل ما قال لهم المسيح ، ويوبخ العالم على الخطيئة ، ويرشد الناس إلى جميع الحق ، ولا ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبرهم بكل ما يأتي ، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد ولا يكون هدى وعلما في قلب بعض الناس . ولا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب بما أخبر به المسيح ، وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا ، بل يكون أعظم من المسيح ، فإن المسيح أخبر أنه يقدر على ما لا يقدر عليه المسيح ، ويعلم ما لا يعلمه المسيح ، ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحق الرب حيث قال : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله ، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إل جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب .
فلا يستريب عاقل أن هذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن الإخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات وعن ملائكته وعن ملكوته وعما أعده في الجنة لأوليائه وفي النار لأعدائه أمر لا تحتمل عقول أكثر الناس معرفته على التفصيل .
قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله .
وقال بان مسعود : ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم .
وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن قال : ما يؤمنك أن لو أخبرتك بها لكفرت . يعني لو اخبرتك بتفسيرها لكفرت بها وكفرك بها تكذيب بها .
فقال لهم المسيح : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله وهو الصادق المصدوق في هذا ، ولهذا ليس في الإنجيل من صفات اله تعالى وصفات ملكوته وصفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، مع أن موسى صلى الله عليه وسلم كان قد سهل الأمر للمسيح ، ومع هذا فقد قال لهم المسيح : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله .
ثم قال : ولكن إذا جاء روح الحق فذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، وإنه يخبركم بكل ما يأتي ، وبجميع ما للرب فدل هذا على أن الفار قليط هو الذي يفعل هذا دون المسيح وكذلك كان فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، ولهذا كان خاتم الأنبياء فإنه لم يبق نبي يأتي بعده غيره ، وأخبر محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما يأتي من أشراط الساعة والقيامة والحساب والصراط ووزن الأعمال ، والجنة وأنواع نعيمها ، والنار وأنواع عذابها ، ولهذا كان في القرآن تفصيل أمر الآخرة وذكر الجنة والنار وما يأتي أمور كثيرة لا توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل ، وذلك تصديق قول المسيح أنه يخبر بكل ما يأتي ، وذلك يتضمن صدق المسيح وصدق محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا معنى قوله تعالى : { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون * بل جاء بالحق وصدق المرسلين } .
أي : مجيئه تصديق للرسل قلبه ، فإنهم أخبروا بمجيئه فجاء كما أخبروا به ، فتضمن مجيئه تصديقهم ، ثم شهد هو بصدقهم فصدقهم بقوله ومجيئه ، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله بين يدي الساعة كما قال : بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى .
وكان إذا ذكر الساعة علا صوته واحمر وجهه واشتد غضبه ، وقال : أنا النذير العريان .
فأخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء كما نعته به المسيح حيث قال : أنه يخبركم بكل ما يأتي ولا يوجد مثل هذا أصلا عن أحد من الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فضلا عن أن يوجد عن شئ نزل على قلب بعض الحواريين .
وأيضا فإنه قال : ويعرفكم جميع ما للرب فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله ، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات وما له من الحقوق وما يجب من الإيمان به وملائكة وكتبه ورسله بحيث يكون يأتي به جامعا لما يستحقه الرب ، وهذا لم يأت به غير محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه تضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة .
وأيضا فإن المسيح قال : إذا جاء الفارقليط الذي يرسله أبي فهو يشهد لي ، قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به ، فأخبر أنه أشهد له ، وهذه صفة نبي بشر به المسيح ويشهد للمسيح ، كما قال تعالى : { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } .
وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة ، وهذا يستحيل حمله على معنى يوم بقلب الحواريين فإنهم آمنوا به وشهدوا له قبل ذهابه فكيف يقول إذا جاء فإنه يشهد لي ويوصيهم بالإيمان به ؟ أفترى الحواريين لم يكونوا مؤمنين بالمسيح فهذا من أعظم جهل النصارى وضلالهم .
وأيضا فإنه لم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان ولم يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل وبخهم وفزعهم وتهددهم .
وأيضا فإنه أخبر أنه ليس ينطلق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع . وهذا إخبار بأن كل ما يتكلم به فهو وحي يسمعه ليس هو شيئا تعلمه من الناس أو عرفه باستنباط، وهذه خاصة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأما المسيح فكان عنده علم بما جاء به موسى قبله يشاركه به أهل الكتاب تلقاه عمن قبله ، ثم جاءه وحي خاص من الله فوق ما كان عنده ، قال تعالى : { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } فأخبر سبحانه أنه يعلمه التوراة التي تعلمها بنو إسرائيل ، وزاده تعليم الإنجيل الذي اختص به ، والكتاب الذي هو الكتابة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم قبل الوحي شيئا ألبتة ، كما قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } .
وقال تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } ، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - ينطق من تلقاء نفسه بل إنما كان ينطق بالوحي كما قال تعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } أي ما نطقه إلا وحي يوحى ، وهذا مطابق لقول المسيح أنه لا يتكلم من تلقاء نفسه بل إنما يتكلم بما يوحى إليه ، الله تعالى أمره أن يبلغ ما أنزل إليه ، وضمن له العصمة في تبليغ رسالاته ، فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق وألقى للناس ما لم يكن غيره من الأنبياء إلقاه خوفا أن يقتله قومه ، وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده ، وأنهم لا يطيقون حمله وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أيده الله سبحانه تأييدا لم يؤيده لغيره ، فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله ، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره ، وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم ، فلم يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح : إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكن لا تستطيعون حمله . . . ولا ريب أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل عقولا وأعظم إيمانا وأتم تصديقا وجهادا ، ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم ، وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم .
وأيضا فإنه أخبر عن الفارقليط أنه سيشهد له ، وأنه يعلمهم كل شيء ، وأنه يذكرهم كل ما قال المسيح ، ومعلوم أن هذه الشهادة لا تكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس لا تكون هذه الشهادة في قلب طائفة قليلة ، ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه أظهر أمر المسيح وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض ، وعلموا أنه صدق المسيح ونزهه عما افترته عليه اليهود وما غلت فيه النصارى ، فهو الذي شهد له بالحق .
ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد - صلى الله عليه وسلم - للمسيح قال لهم : ما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود .
وجعل الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - : شهداء على الناس شهدوا عليهم بما علموا من الحق ، إذ كانوا وسطا عدولا لا يشهدون بباطل ، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا ، بخلاف من جار في شهادته فزاد على الحق أو نقص منه كشهادة اليهود للنصارى في المسيح .
وأيضا فإن معنى الفارقليط إن كان هو الحامد أو الحماد أو المحمود أو الحمد ، فهذا الوصف ظاهر في محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال ، وهو صاحب لواء الحمد ، والحمد مفتاح خطبته ومفتاح صلاته ، ولما كان حمادا سمى بمثل وصفه فهو محمد على وزن : مكرم ومعظم ومقدس ، وهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره ويستحق ذلك ، فلما كان حمادا لله كان محمدا ، وفي شعر حسان : -
أغر عليه للنبوة خاتم من الله ميمون يلوح ويشهد
وضم الإله إسم النبي إلى إسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من إسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وأما أحمد فهو أفعل التفضيل ، أي هو أحمد من غيره أي أحق بأن يكون محمودا أكثر من غيره ، يقال : هذا أحمد من هذا ، أي هذا أحق بأن يحمده من هذا ، فيكون تفضيل على غيره في كونه محمودا .
فلفظ محمد يقتضي زيادة في الكمية ، ولفظ أحمد يقتضي زيادة في الكيفية .
ومن الناس من يقول : معناه أنه أكثر حمدا لله من غيره وعلى هذا فيكون بمعنى الحامد والحماد ، وعلى الأول بمعنى المحمود .
وأن كان الفارقليط بمعنى الحمد فهو تسمية بالمصدر مبالغة في كثرة الحمد ، كما يقال : رجل عدل ورضى ونظائر ذلك ، وبهذا يظهر سر ما أخبر به القرآن عن المسيح من قوله : { ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد } فإن هذا هو معنى الفارقليط كما تقدم .